ما يجري في غزة ليس أوشفيتس، لكنه من العائلة نفسها ـ إنه جريمة إبادة جماعية
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- التوصيف الملائم للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة مسألة كانت موضع نقاش منذ أكثر من عام بين الباحثين والقضاة والناشطين السياسيين والصحافيين، وغيرهم، هذا النقاش لم تطّلع عليه أغلبية الإسرائيليين. لكن بالنسبة إلى عشرات الآلاف من الأطفال الذين قُتلوا، أو أصيبوا، أو أصبحوا أيتاماً، أو الأطفال الرضع الذين تجمدوا من شدة البرد وماتوا في غزة، ليس مهماً التعريف الذي ستعطيه محكمة العدل الدولية، أو المؤرخون، لهذه الجريمة في نهاية المطاف.
- إن الفحص المقارن للأحداث في السنة الأخيرة، حسبما سنعرضه لاحقاً، يؤدي إلى خلاصة مؤلمة، وهي أن إسرائيل ترتكب، فعلاً، جريمة إبادة جماعية في غزة. وحسبما كتب مارك توين: "الحبر الذي يُكتب به التاريخ مصنوع من تعصّب سائل". إن مخاطر كتابة التاريخ بطريقة متحيزة واضحة تسلّط الضوء على الحاجة إلى تعريفات دقيقة ومتوازنة للتوصل إلى فهم دقيق للأحداث. ويقودنا الفحص الدقيق للأحداث التي شهدها العام الماضي إلى الاستنتاج المؤلم أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة.
- لقد ادّعى المؤرخ شلومو ساند [مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي"] أنه على الرغم من الفظائع وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة، فإن ما يجري هناك ليست إبادة جماعية ("هآرتس" 15/12/2024). لقد قارن ساند الحرب في غزة بحدثين مشابهين، بحسب رأيه، ارتكبت فيهما جيوش دول ديمقراطية (فرنسا والولايات المتحدة) جرائم فظيعة ضد السكان المدنيين، لا تقل عن الفظائع المرتكبة في غزة، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأفعال لم تُعتبر جريمة إبادة جماعية: حرب الجزائر (1954-1962) وحرب فيتنام (1965-1973).
- لم يكن ساند دقيقاً في كلامه. وفي تقدير بين كيرنان، وهو من أهم الباحثين في الإبادة الجماعية في العالم، في كتابه "Blood and Soil: A world History Of Genocide and Extermination From Sparta to Darfur" أنه خلال الاحتلال الاستعماري الفرنسي للجزائر (1830-1875) مات، أو قُتل، ما بين 500 ألف ومليون جزائري بسبب المرض، أو القتل العمد. ويعتبر كيرنان أن الاستعمار الاستيطاني في الجزائر أدى إلى إبادة جماعية تشبه الإبادات الجماعية التي ارتكبها الاستعمار الاستيطاني في أميركا الشمالية، وفي أستراليا.
- ويدّعي ليو كزبر، وهو من الجيل الأول للعلماء في الإبادة الجماعية، في كتابه: "Genocide: Its Political Use in The Twentieth Century" أن الفظائع التي ارتكبها الفرنسيون في حرب الجزائر هي "مذبحة جماعية"، حتى لو لم تستوفِ المعايير الكاملة لتعريف الإبادة الجماعية.
- بالنسبة إلى حرب فيتنام، كان ساند أقل تحديداً. في سنة 1966، أقيمت "محكمة راسل"، وهي هيئة غير رسمية أسسها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، وترأسها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. هدفها التحقيق ونشر الاتهامات بشأن جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام. لقد تضمنت هذه الهيئة مثقفين وسياسيين وناشطين بارزين إلى جانب سارتر، مثل سيمون دو بوفوار، وغيرهما. وقررت هذه المحكمة أن أعمال الجيش الأميركي في فيتنام تُعتبر إبادة جماعية، بحسب ميثاق الأمم المتحدة في سنة 1948 لمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها. شملت هذه العمليات عمليات قتل للمدنيين واستخدام سلاح محظور، وتعذيب أسرى الحرب، وتدمير مواقع ثقافية وتاريخية.
- ومثلما جرى ما بين إسرائيل و"حماس"، أثارت استنتاجات المحكمة انتقادات شديدة لعدم مناقشتها الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها الفيتكونغ في فيتنام الشمالية ضد مواطني فيتنام الجنوبية. لكن الاعتراف بـ"الجرائم" التي ارتكبتها "حماس"، أو الفيتكونغ، لا ينفي الحاجة إلى التدقيق فيما فعله الجيش الأميركي في فيتنام، وما فعله الجيش الإسرائيلي اليوم في قطاع غزة.
- ووجهت "محكمة راسل" النقاش بشأن الإبادة الجماعية نحو اتجاهات أُخرى. وزعم ليو كزبر أن القصف الاستراتيجي، مثل القنابل الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناكازاكي (1945)، وقصف الحلفاء لمدينتَي هامبورغ ودرسدن (في سنتَي 1943-1945) يمكن اعتباره إبادة جماعية بسبب نية تدمير مدنيين.
- لم تلقِ إسرائيل قنبلة نووية على غزة (على الرغم من اقتراح وزير التراث عميحاي إلياهو)، لكن في حرب غزة، خُرقت حواجز كثيرة كانت إسرائيل تحاذر خرقها في الماضي. لقد أظهر التحقيق الذي أجراه يوفال أبراهام في موقع "سيحا مكوميت" (3/4/2024)، والذي أكدت نتائجه التحقيق المنفصل الذي أجرته صحيفة "الواشنطن بوست" (29/12/2024) أن الجيش الإسرائيلي استخدم الذكاء الاصطناعي في قصف غزة، وهو ما أدى إلى إصابة عدد كبير من الأبرياء. كما سمح أحياناً بتدمير حيّ كامل وقتل 300 شخص غير متورطين في القتال، فقط من أجل قتل مسؤول كبير في "حماس".
- هذا المنطق جعل كل سكان غزة أهدافاً مشروعة. وبحسب أرقام جمعها د. لي مردخاي ("هآرتس" 5/12/2024)، يمكن القول إن ما يتراوح بين 60% و 80% من الضحايا هم من غير المتورطين، وهذا أعلى رقم سمح به الجيش الإسرائيلي في الماضي، وأكبر من أرقام حروب القرن الحادي والعشرين كلها.
- وهذه سياسة فعلية تسمح بالإبادة الجماعية. لكن الصعوبة الأساسية التي تواجه التعريف القانوني لاعتبار القتل الجماعي إبادة جماعية هو إثبات وجود نية. ويفرض ميثاق الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية، العائد إلى سنة 1948، إثبات النية في الإبادة بصورة شاملة، أو جزئية، لجماعة هي ضحية إبادة، والتي يمكن أن تكون جماعة قومية، أو دينية، أو إثنية، أو عنصرية. مسألة النية أُدخلت إلى الميثاق، انطلاقاً من مصلحة مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، اللذين تخوفا في فترة الحرب الباردة من أن يجدا نفسيهما على مقاعد الاتهام في محكمة العدل الدولية بسبب أعمال عنف قاما بها في الماضي، أو قد يقومان بها في المستقبل.
- كانت المحكمة الدولية، طوال الحرب الباردة، عنصراً هامشياً في العلاقات الدولية. والمرة الأولى التي حكمت فيها محكمة الجنايات الدولية على متهم بجريمة إبادة جماعية كانت في أيلول/سبتمبر 1998، على جان بول أكايسو [عمدة المدينة التي قُتل فيها التوتسيون] في محاكمة الإبادة الجماعية في رواندا. وعموماً، تتوخى المحاكم الدولية كثيراً من الحذر، قبل أن تحكم في ارتكاب إبادة جماعية. والمحكمة الجنائية للاستئناف التي عالجت الإبادة الجماعية في سربيرنيتسا تطرقت إلى إبادة جزء من الجماعة (المذكور في ميثاق جنيف)، وقررت أن هذا الجزء يجب أن يكون واضحاً ودقيقاً، كما أن إبادة هذا الجزء يجب أن تعرّض الجماعة كلها للخطر.
- وقضت محكمة العدل العليا في الحُكمين الصادرين بشأن قضيتين تتعلقان بالحرب في يوغوسلافيا أنه من أجل إثبات وجود نية إبادة، يجب أن تكون الأفعال والسلوكيات مطابقة لذلك، ولا يمكن تفسيرها بأيّ تفسير منطقي آخر، غير نية الإبادة. أي لا يكفي أن تكون نية الإبادة هي التفسير الأكثر معقوليةً للأفعال، بل المطلوب ألّا يكون هناك تفسير آخر.
- وفعلاً، قررت المحكمة العليا في الدعوى التي قدمتها كرواتيا في سنة 2015 ضد صربيا، بحجة أن هذه الأخيرة ارتكبت إبادة جماعية في الحرب ضد كرواتيا في التسعينيات، أن الحرب شهدت أعمال قتل وعنف من الطرفين، لكن هذه الأعمال لم تتخطّ السقف المطلوب لكي تكون إبادة جماعية. أمّا محكمة الجنايات الدولية الخاصة بدولة يوغوسلافيا سابقاً، فامتنعت من تعريف حوادث العنف في الحرب بأنها إبادة جماعية، باستثناء المذبحة التي ارتُكبت في تموز/يوليو 1995 ضد بوسنيَّين مسلمَين في سربيرنيتسا، التي قُتل فيها نحو 8000 رجل، وجرى طرد النساء والأطفال.
- هل يمكن إثبات نية الإبادة الجماعية في حالة غزة؟ باستثناء فكرة استخدام السلاح النووي، قال سياسيون وعسكريون وإعلاميون إسرائيليون كلاماً كثيراً يدل على نية الإبادة الجماعية، وكله موثّق، مثل: لا يوجد أبرياء في غزة، سنقوم بنكبة جديدة، يجب تدمير العماليق [اسم يُطلق على أول مَن قاتل بني إسرائيل بقيادة النبي موسى خلال التيه في سيناء]، وغيرها. وعلى الرغم من ذلك، فإن مفهوم النية إشكالي للغاية. ويليام شاباس، من كبار القضاة في موضوع الإبادة الجماعية، يشرح ذلك في كتابه المهم Genocide in International Law: The Crime of Crimes، ويحلل فيه قرارات المحاكم الدولية الخاصة التي حاكمت في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، وفي يوغوسلافيا.
- يقول شاباس إن الدليل على النية الذي يمكن أن يجرّم شخصاً، أو دولة، بارتكاب إبادة جماعية، أكثر صعوبةً وتعقيداً من إثبات النية في محاكمة جريمة جنائية عادية. وخصوصاً عندما يكون المقصود دولة، فعلى أيّ أساس يمكن تحديد نية الدولة؟ إذا قام القتَلة بتفيذ أفعالهم من خلال الإعلان والتصريح والأوامر وخطاب يعني ذلك، فإنه من السهل إثبات هذه النية. وحين لا توجد مواد من هذا النوع، فإن النيابة العامة تعتمد على الأدلة المستمدة من الجريمة نفسها، والإصرار الذي أظهره القتَلة على ارتكاب جريمة القتل، وهو ما يشير إلى رغبة واضحة في تدمير الجماعة.
- قررت المحكمة الخاصة برواندا أنه يمكن استنتاج وجود نية إبادة جماعية من خلال الأفعال بحد ذاتها، ومن "خلال الطابع الجماعي، و/أو الأسلوب المنهجي، أو من خلال الفظائع بحد ذاتها". فيما يتعلق بغزة، يعتقد شاباس أن الدعوى ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، والتي قدمتها جنوب أفريقيا، وانضمت إليها 14 دولة، هي قوية جداً بسبب التصريحات التي حملت طابع الإبادة الجماعية التي صدرت عن صنّاع القرار في إسرائيل، أو بسبب طبيعة العمليات بحد ذاتها، مثل التجويع المنهجي لسكان غزة، والتطهير العرقي في شمال القطاع، وقصف الأماكن التي اعتُبرت "آمنة".
- إن حوادث الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث، في معظمها، جرت بعد نزاع عنيف ومستمر بين مجموعة القتَلة ومجموعة الضحايا. على سبيل المثال، الأرمن الذين ثاروا ضد السلطنة العثمانية وجرى قمع تطلعاتهم القومية، وقاموا بعمليات "إرهابية" ضد الدولة في نهاية القرن التاسع عشر. أيضاً، بدو الجبال في جنوب غرب أفريقيا الذين تمردوا ضد الحكم الإمبريالي الألماني الذي رد عليهم بتدميرهم، وانتهج سياسة قضت على مصادر عيش هؤلاء الناس (قطعان البقر). وقبائل الهوتو الذين قتلوا قبائل التوتسي في رواندا، بعد أعوام طويلة من النزاع الذي بدأ بسبب الامتيازات التي منحها المستعمر البلجيكي لقبائل التوتسي، بعد الحرب العالمية الأولى.
- ضمن هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أعمال الإبادة الجماعية، في أغلبيتها، اعتبرها منفّذوها عملاً للدفاع عن النفس في وجه ضحاياهم، ويدخل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي ضمن هذه الفئة؛ لقد اعتبرت أغلبية الإسرائيليين الإبادة الجماعية في غزة حرباً دفاعية جاءت بعد الهجوم المريع الذي قامت به "حماس" في 7 أكتوبر.
- ولا تتماهى الإبادة الجماعية، بالضرورة، مع النموذج النازي، الذي اعتبر كل يهودي، حيثما كان، عدواً يجب القضاء عليه. كما أن الإبادة الجماعية ليست أفقية البتة، ودائماً ما تشهد عمليات متناقضة. وبينما جرى ذبح الأرمن وطردهم من مناطق كثيرة من السلطة العثمانية، لم يتم التعرض لهم، تقريباً، في مدن كبرى، مثل إزمير وإستانبول. في بعض الأحيان، أوقف مهندس "الحل النهائي" النازي (هنريك هيملر) إبادة اليهود في نقاط معينة وأوقات معينة لاعتبارات اقتصادية، أو دبلوماسية، الأمر الذي سمح بفتح نافذة لإنقاذهم. أيضاً سمحت إسرائيل بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة (التي كثيراً ما كانت تُستغل من طرف عصابات الجريمة المحلية)، وفي الوقت عينه، تقتل آلاف المدنيين الأبرياء.
- ودائماً تقريباً، كانت الأوامر بتنفيذ عمليات قتل جماعية أوامر غامضة وعرضة لعدة تأويلات. هذا ما حدث أيضاً فيما يتعلق "بالحل النهائي". المؤرخ البريطاني إيان كرشاو يشرح في كتابه "قرارات مصيرية" ( صادر عن دار عام عوفيد، 2009) أن تحديد وجود قرار بشأن الإبادة يمكن أن يكون مضللاً لأنه قد يخلق الانطباع أن أمراً صريحاً بارتكاب إبادة جماعية صدر في لحظة محددة. لم يصدر أمر الإبادة من أعلى الهرم (هتلر) إلى أسفله، بل كان هناك تفاعلات معقدة شملت إعطاء الضوء الأخضر، وتلميحات بالموافقة على العمل، ومبادرات من الأعلى إلى الأسفل، تقاطعت كلها نحو التطرف المتدحرج. ولم تتبلور العملية إلّا في مرحلة لاحقة، لتصبح قراراً واضحاً ظاهراً على أرض الواقع. وينطبق هذا على ما يحدث في غزة أيضاً.
- لقد جمع يانيف كوفوفيتس شهادات مروعة بشأن ما يحدث في ممر نتساريم ("هآرتس"، 18/12/2024). كانوا يطلقون النار على كل مَن يجتاز خطاً وهمياً، ويقتلونه، سواء أكان مسلحاً، أو مدنيون ضلوا طريقهم. ويسود التعسف وانعدام القانون مكاناً يستطيع فيه كل شخص أن يطلق النار على أيّ فلسطيني يمرّ، وأن يقتل الجميع، سواء أكانوا أطفالاً، أو "مخربين". تماماً مثل أيّ شاب ومسن قُتل على يد الفيرماخت [قوات الدفاع الألمانية] خلال سنوات الحرب في القرى الواقعة في عُمق الاتحاد السوفياتي، بعد تصنيفه أنه مع الثوار، وبالتالي يستحق القتل.
- ليس هناك مَن أعطى الأوامر للجنود الإسرائيليين الذين يقتلون الفلسطينيين في ممر نتساريم، لكن الجنود الذين كانوا يفعلون ذلك (وبالتأكيد ليس كل الجنود) يعرفون أنه لن يصيبهم أيّ أذى. تقاطعت تلميحات من الأعلى (من السياسيين وضباط الجيش، مثل العميد يهودا فاخ) والفوضى القاتلة من الأسفل، هكذا تحدث الإبادة الجماعية.
- في آذار/مارس 2022، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في متحف المحرقة في واشنطن، أن الولايات المتحدة ترى في أفعال ميانمار ضد أبناء أقلية الروهينغا إبادة جماعية. وقال بلينكن أنه قرر إعلان ذلك من متحف المحرقة النازية، لأن دروسها لا تزال ذات صلة اليوم أيضاً. لم يصرخ أحد بأن هذا الكلام استخفاف بالمحرقة، ولا تجوز المقارنة.
- هذه المرة الثامنة التي اعترفت فيها الولايات المتحدة بإبادة جماعية، بالإضافة إلى المحرقة النازية. وهذه الحالات هي: قتل الشعب الأرمني، والهولودومور [ المعروف أيضاً بالمجاعة في أوكرانيا في الفترة 1923 - 1933، والتي حصدت حياة مليون أوكراني، ويُعتقد أنها كانت من صُنع البشر]، وفي كمبوديا على يد الخمير الحمر [1975- 1979]، والإبادة الجماعية في رواندا، وفي سربيرنيتسا، والإبادة في دارفور، والإبادة التي ارتكبتها "داعش" ضد الإيزديين. وفعلاً، في هذه الأيام، في 9 كانون الثاني/يناير، اعترفت إدارة بايدن (مرة أُخرى على لسان بلينكن) بالإبادة الجماعية العاشرة، وهي العمليات التي نفّذتها قوات الدعم السريع من الميليشيات شبه العسكرية في الحرب الأهلية الدائرة في السودان منذ سقوط الرئيس عمر البشير في سنة 2019.
- ما حدث في ميانمار هو طرد نحو 850 ألف شخص من أبناء الروهينغا إلى بنغلادش ومقتل نحو 9000 منهم. أي أنه لم تحدث إبادة جسدية لكل أبناء الروهينغا، بل لنسبة صغيرة من أبناء الشعب. اليوم، هناك دعوى ضد ميانمار أمام محكمة العدل العليا، قدمتها غامبيا وانضم إليها عدد من الدول، بينها ألمانيا وبريطانيا. تصريحات ميانمار بشأن إبادة الروهينغا ضعيفة، مقارنةً بطوفان التصريحات الإبادية التي سمعناها من الفروع السياسية والاجتماعية والإعلامية والعسكرية في إسرائيل، والتي عبّرت عن نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ورغبة شديدة في إبادتهم على نطاق واسع.
- إن الإبادة الجماعية هي كلّ عمل يؤدي إلى تدمير قدرة جماعة على الوجود، وليس فقط قتلها جسدياً. وتشير التقديرات إلى مقتل نحو 50 ألف شخص في غزة وإصابة أكثر من 110. وعدد الذين ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض غير معروف، وربما لن نعرفه قط. الأغلبية الساحقة من الضحايا هي من المدنيين غير الضالعين في الحرب. 90% من السكان في غزة اقتُلعوا من منازلهم، ويعيشون في ظروف تزيد في معدل الوفيات.
- إن قتل الأطفال، والتجويع، وتدمير البنى التحتية والطاقم الطبي، وتدمير معظم المنازل، ومحو أحياء وبلدات كاملة، مثل جباليا وبيت لاهيا، والتطهير العرقي في شمال القطاع، وتدمير كل الجامعات ومعظم المؤسسات الثقافية والمساجد، وتدمير شبكة الكهرباء، والمقابر الجماعية، وتدمير بنية إنتاج الغذاء المحلي وخزانات المياه، أمور كلها تخلق صورة إبادة جماعية واضحة. إن غزة، ككيان إنساني وطني- جماعي، لم تعد موجودة، وتحديداً، هذه هي الإبادة الجماعية.
- بعد انتهاء الحرب، نحن مضطرون إلى النظر إلى أنفسنا في المرآة. ومن خلالها، سنرى مجتمعاً لم يتخلّ فقط عن أبنائه وبناته المخطوفين، ولا عن الدفاع عن مواطنيه في مواجهة "حماس القاتلة"، بل أيضاً، سنرى مجتمعاً اقترف هذه الأفعال الشنيعة في غزة، هذه الإبادة الجماعية التي ستظل وصمة عار في التاريخ اليهودي، من الآن وإلى الأبد. يجب أن ننظر مباشرةً، وندرك عُمق الفظاعة التي ارتكبناها. ما يحدث في غزة ليس محرقة. لا يوجد هناك أوشفيتس، ولا تريبلينكا، لكنها جريمة من العائلة نفسها، إنها إبادة جماعية.