بعد الاتفاق على تحرير المخطوفين، ماذا سنفعل بقطاع غزة؟
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- تغيّر صفقة تحرير المخطوفين الوضع الذي خلّفته المعركة في قطاع غزة. بالإضافة إلى الرغبة الطبيعية في عودة المواطنين الإسرائيليين من أسر "حماس"، ليس من المبالغة القول إن عودتهم لها أهمية تاريخية، لكي نتمكن من المحافظة على الأخلاق اليهودية بشأن افتداء الأسرى، والأخلاق اليهودية بشأن الضمانات المتبادلة، وعلى أخلاق الجيش الذي لا يترك وراءه أحداً. بالإضافة إلى ذلك، تأتي الصفقة في وقت جرى تفكيك الأطر العسكرية لـ"حماس"، على الرغم من أن الحركة لا تزال الطرف الذي يسيطر على أغلبية أراضي القطاع، كما أن حركة القتال العنيف توقفت منذ وقت، فضلاً عن أن وقف القتال لن يضرّ بالجيش الإسرائيلي، وسيسمح له بإعادة تنظيمه من جديد. علاوةً على ذلك، يبدو أن الضغط السياسي الذي مارسته إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب من أجل تنفيذ الصفقة لم يترك كثيراً من الاحتمالات.
- وفي الوقت الذي تحقق الصفقة هدفاً واحداً من الأهداف الثلاثة التي وُضعت للحرب، وهو إعادة المخطوفين، فإنها ستجعل تحقيق الهدفَين الآخرَين للحرب صعباً: تدمير القدرات العسكرية والحكومية لـ"حماس" في قطاع غزة. وقف إطلاق النار وتخفيف الوجود العسكري في المرحلة الأولى من الصفقة، ثم الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من القطاع في المرحلة الثانية، والذي لن يسمح بعمليات عسكرية مكثفة من أجل القضاء على "حماس" في داخل أراضي غزة.
- لكن عملياً، لن يؤدي أيضاً استمرار العمليات العسكرية في القطاع بالطريقة التي كانت تجري فيها حتى الآن، من دون عملية سياسية موازية، إلى اقتلاع "حماس". طوال الحرب، حافظت "حماس" على سيطرتها المدنية في القطاع، كذلك، سيطرت على المساعدات الإنسانية، وعلى مراكز الإيواء، واستخدمت قوات الأمن الداخلي من أجل فرض إرادتها على الأرض، واستغلت هذه السيطرة والوضع المدني الصعب من أجل الاستمرار في "أدلجة" الجمهور من خلال منظومة دعواها. بالإضافة إلى ذلك، يجري الحديث عن إقدام "حماس" على ملء صفوف عناصر ذراعها العسكرية (في هذه المرحلة، المقصود شبان صغار ليس لديهم تجربة)، وانتقالها إلى مخطط شنّ "حرب عصابات" ضد قوات الجيش الإسرائيلي.
- لقد كان الفشل في القضاء على "حماس"، على الأقل، كحركة تحظى بتأييد الجمهور الغزّي، نتيجة معروفة سلفاً، ومنذ اللحظة التي اتضح أن إسرائيل، لأسبابها الخاصة، لا تعمل على بناء بديل من "حماس" في قطاع غزة، أو على الأقل، العمل على خلق ظروف تسمح بنموّ بديل كهذا. عندما نقارن بين عمليات محاربة التطرف في الأنظمة الأيديولوجية "المجرمة"، من ألمانيا النازية واليابان، وصولاً إلى طالبان في أفغانستان، ونظام البعث في العراق، يبرز درس أساسي واحد، وهو أن حجم النجاح ليس مرتبطاً فقط بالهزيمة العسكرية الكاملة للنظام الراديكالي، بل بالجهد الفاعل من أجل أن ينمو مكانه بديل محلي أكثر اعتدالاً. المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة لا يرى أفقاً فكرياً وسياسياً وسلطوياً غير "حماس"، يمكن أن يقود عملية إعادة الإعمار وبناء واقع مختلف. في مثل هذه الظروف، من الصعب على أفق توقعات الجمهور أن يتجاوز الأطر القائمة لـ"حماس"، واستمرار القتال يغذي صناعة الجهاد، ويجعلها الصناعة الوحيدة القادرة على العيش في قطاع غزة.
- وماذا يمكن أن يحدث لاحقاً؟ في المدى القصير، خلال الأسابيع المقبلة، يمكن أن تتطور الصفقة مع "حماس" في اتجاهين مختلفين. الاحتمال الأول، التقدم نحو المرحلة الثانية من الصفقة، ومعنى ذلك إنهاء الحرب وانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي. والاحتمال الثاني، هو انهيار الصفقة خلال فترة الانتقال إلى المرحلة الثانية، وتجدُّد القتال. والتطورات نحو هذين الاحتمالين رهن بثلاثة لاعبين: "حماس" التي لن تسارع إلى إطلاق كل المخطوفين لديها، وستحتفظ بهم كبطاقة تأمين من أجل المحافظة على بقائها؛ الحكومة الإسرائيلية التي ستجد نفسها عرضةً لضغوط سياسية وشعبية متناقضة، من الداخل والخارج؛ إدارة ترامب التي كان لديها تأثير حاسم في التوصل إلى الصفقة الحالية، والتي من المتوقع أن تمارس ضغوطاً مباشرة على إسرائيل، وضغوطاً غير مباشرة على "حماس"، عن طريق قطر ومصر من أجل تحريك دينامية في القطاع تتلاءم مع مصالح الإدارة الجديدة.
- وسواء أكانت الصفقة ستتقدم نحو المرحلة الثانية، أم ستنهار، ويتجدد القتال، حان الوقت للاعتراف بأن التهرب من مناقشة بدائل استراتيجية بعيدة المدى في قطاع غزة، تتحمل مسؤوليته إسرائيل. إن وقف الحرب وانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من القطاع من دون تحقيق الاستقرار، أو على الأقل، إيجاد بديل من "حماس"، هذا كله سيترك فراغاً يعزز سلطة "حماس"، وفي الوقت عينه، إن تجدُّد القتال من دون تطوير بديل من سلطة "حماس" في القطاع، هو في الواقع انتهاج للسياسة الإسرائيلية التي كانت سائدة قبل 7 أكتوبر، مع ملاءمتها للواقع الجديد: تحتفظ إسرائيل بحُرية العمل العملاني، من دون إخضاع "حماس"، وتسمح بدخول المساعدات الإنسانية، من دون إعادة بناء البنى التحتية والاقتصادية والمحلية، وتخلق وضعاً من الفوضى المستمرة في القطاع.
- بديل آخر يمكن أن يتطور بقرار من إسرائيل، أو نتيجة تطوُّر تدريجي من واقع الفوضى الحالية، هو احتلال القطاع وتطبيق الحكم العسكري على المنطقة. هذا البديل سيعزز القدرة على العمل العسكري الإسرائيلي في القطاع، وخصوصاً بعد تخفيف القيود المفروضة على استخدام القوة بسبب المخاوف من إلحاق الأذى بالمخطوفين الأحياء، الأمر الذي يساعد على قمع "حماس" عسكرياً. لكن المخاطر والمشكلات التي ينطوي عليها هذا البديل كبيرة جداً بالنسبة إلى إسرائيل: على المستوى العسكري، سيضطر الجيش إلى تخصيص قوات عسكرية كبيرة لمدة طويلة، وسيستمر سفك الدماء في حرب الاستنزاف وحرب العصابات التي تخوضها "حماس". على المستوى السياسي، سيؤجّل الاحتلال العسكري في المدى المنظور فرص التطبيع مع السعودية وقيام ائتلاف إقليمي، وسيعمّق عزلة إسرائيل والضغط السياسي عليها من جهات كثيرة من المجتمع الدولي. على المستوى الاقتصادي، معنى الحكم العسكري هو تحمُّل المسؤولية المدنية عن الأرض والسكان، أي إدارة الحياة اليومية وجهود إعادة الإعمار التي تتطلب عشرات المليارات من الدولارات من خزينة الدولة (في وضع الاحتلال، لن تأتي مساعدات إنسانية دولية إلى القطاع). وبعد أن تدفع إسرائيل هذه الأثمان، فإن هذا البديل لا يضمن القضاء على "حماس"، التي يمكن أن تُقمع، أو تضعف، لكنها لن تختفي، وستستمر كفكرة وحركة سياسية في الإطار المحلي.
- الضم الجزئي، أو الكامل، للقطاع يشكل خياراً "موسعاً" لبديل الحكم العسكري. ويحظى هذا البديل بتأييد قسم من الائتلاف، وبحسب استطلاعات الرأي العام الجديدة، فإنه يحظى بتأييد نسبة لا بأس بها من الجمهور الإسرائيلي. هذا البديل لا يحسّن الفوائد العسكرية لبديل الحكم العسكري، وأثمانه باهظة جداً. سياسياً، ستزداد عزلة إسرائيل، وستتوقف مبادرة التطبيع مع السعودية، ومن المعقول أن ينعكس هذا سلباً على الاستقرار الإقليمي، وعلى اتفاقات السلام مع مصر والأردن. أمّا فيما يتعلق ببديل الضم، فإن التكلفة الاقتصادية والتداعيات السياسية والاجتماعية لمنح مليوني فلسطيني الجنسية، كبيرة إلى درجة أنها تشكل خطراً على المشروع الصهيوني كله؛ الدعوات إلى تشجيع الهجرة الطوعية هي جريمة حرب، وغير واقعية عند اختبار الواقع؛ وضمّ جزء من القطاع فقط، لا يوجد فيه سكان فلسطينيون، سيكلف الأثمان السياسية الباهظة التي يتطلبها الضم الكامل، من دون أن يحسّن الوضع الاستراتيجي لدولة إسرائيل.
- بالنسبة إلى البدائل الإشكالية المطروحة أعلاه، امتنعت إسرائيل، حتى الآن، من الرد على البديل الذي صاغته مصر والإمارات والأردن بشأن تشكيل إدارة تكنوقراط في قطاع غزة، تعتمد على موظفين وأصحاب اختصاص محليين لا ينتمون إلى "حماس" (يوجد اليوم الآلاف من هؤلاء، قسم منهم من عناصر "فتح")، تعمل إلى جانبها إدارة إقليمية - دولية تقدم المساعدة المطلوبة من إدارة التكنوقراط من أجل تحقيق الاستقرار في القطاع وتهيئة الظروف لإعادة الإعمار. ومن المؤكد أن الدول العربية المشارِكة تعرف أنه في المراحل الأولى، سيكون المطلوب إعطاء إسرائيل حرية العمل العملاني من أجل إحباط "الإرهاب" ومنع استعادة "حماس" قوتها، وهذه مصلحة مشتركة. لقد امتنعت إسرائيل من قبول الاقتراح بسبب مطالبة الدول العربية بإشراك السلطة الفلسطينية التي يجب أن تكون العنصر الذي سيدعو إلى المشاركة الإقليمية والدولية وبناء قوة حُكم قادرة على تطبيق القانون في القطاع. لقد امتنعت إسرائيل من قبول ذلك لأنها ترى في السلطة الفلسطينية منصة لإقامة الدولة الفلسطينية، بالإضافة إلى عدم قدرتها على محاربة "الإرهاب"، وجرّاء دورها في التحريض، وفي نشر الثقافة الراديكالية. بالنسبة إلى إسرائيل، هذا الحل ليس مثالياً، لكنه الحل الأفضل في الظروف الحالية.
- وافقت "حماس" على مبادرة مصر بشأن إقامة لجنة مدنية عبارة عن إدارة من التكنوقراط، عملياً، وذلك إدراكاً منها أن السيطرة المدنية ستظل في يدها. وفي الوقت عينه، تؤكد "حماس" أنها ستهاجم أيّ طرف أجنبي يعمل في القطاع، إذا كان سيتعاون مع إسرائيل. لكنها ستمتنع من إعلان رفضها المبدئي لجهة حكومية تعمل من طرف السلطة الفلسطينية، وتتضمن قوات عربية، وخصوصاً من مصر والإمارات والسعودية.
- المهمة الأولى لإدارة التكنوقراط هذه العمل على استقرار الوضع الإنساني في القطاع. وبالتدريج، البدء بمعالجة ترميم البنى التحتية والاقتصاد وتطوير قوات أمنية للمحافظة على النظام، ولمحاربة "الإرهاب" والتطرف في منظومات الحكم، وفي الحياة العامة، مثل منظومة التعليم. لا يمكن معالجة هذه المسائل من دون مصدر تمويل للعمليات المختلفة، وأيضاً مصدر يعرف كيفية الدفع قدماً بعمليات محاربة التطرف، استناداً إلى تجربته الماضية الغنية في معالجة موضوع المجموعات الإسلامية المتطرفة في بلده.
- بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن على إسرائيل الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من حرية العمل، وإزالة التهديدات، والمطالبة بنزع سلاح "حماس"، بدعم عربي ودولي. وفي حال استمرت الصفقة، ولم يتجدد القتال في القطاع لفترة زمنية، سيكون من الصعب على إسرائيل المحافظة على حرية عملها العملاني ومنع "حماس" من محاصرة إدارة التكنوقراط (مثلما يؤثر حزب الله في تأليف الحكومة اللبنانية). جزء من الرد على ذلك، سيكون بعودة إسرائيل إلى العمل داخل القطاع عند الحاجة في وقت لاحق، وعلى أساس حقها في الدفاع عن نفسها.
- هناك ميزة إضافية لإدارة التكنوقراط المحلية، تتمثل في قدرتها على أن تستخدم أساساً لتسوية واسعة النطاق للمشكلة الفلسطينية، ضمن إطار مبادرة إقليمية بقيادة إدارة ترامب. إن آلية حُكم كهذه، يمكن أن تُستخدم في المساعدة على استقرار الميدان، كما تُظهر استعداداً إسرائيلياً للسماح للفلسطينيين بحكم ذاتي يتطابق مع المطلب السعودي، من أجل شق الطريق أمام قيام دولة فلسطينية. وكلما استطاعت هذه الإدارة المدنية مواجهة التحديات والقيام بالمهمة المنوطة بها، كلما حظيت بمزيد من الاستقلالية، وكلما نجحت السلطة في القيام بإصلاحات عميقة ترضي إسرائيل والدول العربية المعتدلة، كلما تمكنت من زيادة صلتها بالإدارة في القطاع.
- في الخلاصة، يدل تحليل البدائل في اليوم التالي في القطاع على أن البديل المتمثل في إدارة محلية من التكنوقراط هو الأقل سوءاً من بين الخيارات غير المثالية المطروحة أمام إسرائيل. هذا البديل يوازن بين الحاجة إلى إيجاد بديل من "حماس" في القطاع، بدعم من الدول العربية المعتدلة، وبين ضرورة احتفاظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية وحرية العمل العملاني. وهناك فرصة لتشجيع الدول العربية، من خلالها، على الاستثمار في استقرار الحياة المدنية ومحاربة التطرف في القطاع، قبل تحقيق الشروط من أجل دخول السلطة إلى الميدان، وطبعاً، قبل أن تكون قد قامت بإصلاحات مهمة. أيضاً، هذا البديل يمنح إسرائيل القدرة على السيطرة على العملية السياسية التي تنوي إدارة ترامب الدفع بها قدماً، كجزء من رؤيا قيام تركيبة إقليمية جديدة.