في مديح الترانسفير
تاريخ المقال
المصدر
- وضعت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر إسرائيل أمام خيارَين وجوديَّين، لا مفرّ من أحدهما، الإبادة، أو ترحيل ملايين العرب الذين يعيشون في أرض إسرائيل، ويؤمنون بأن هدف وجودهم هو تدميرها. على سبيل المثال، تحدث آفي ديختر عن "الإبادة التامة لحماس"، وكذلك فعل يوآف غالانت.
- لكن كلام نتنياهو كان أكثر غموضاً بشأن "القضاء على حماس". لقد برزت هذه الرغبة في القضاء على "حماس" في دعوات العديد من الجنود والمواطنين إلى محو ذكرى العماليق. وفوراً، قوبلت هذه المطالب المشروعة باتهامات بارتكاب جرائم "إبادة جماعية" في غزة، والتي يبدو أنها أخافت إسرائيل أكثر من واجب الحفاظ على وجودها.
- أدى هذا الخوف إلى أن تبذل إسرائيل كل ما في وسعها من أجل عدم المساس بالمدنيين غير المتورطين، على الرغم من أنه من الواضح للجميع أن الأغلبية العظمى من سكان غزة تتعاطف مع "حماس"، قلباً وقالباً، لقد وصل هذا الحذر إلى درجة أنه، وفقاً للتقارير، منعت المدعي العام العسكري من تصفية خاطفي عائلة بيباس، بحجة أن "الاستهداف المتعمد خلال الحرب، يجب أن يكون فقط ضد أعضاء منظمات ’إرهابية’ يُعرّفون بأنهم قوة مقاتلة ضد إسرائيل".
- لا حاجة إلى القول إن هذا الحرص الشديد على حياة الأعداء، الذين لا يختلفون عن "النازيين"، يأتي على حساب أرواح جنود الجيش الإسرائيلي، ويهدد وجود دولة إسرائيل.
- بغض النظر عن كل التصريحات العدوانية، أثبتت حرب "السيوف الحديدية"، بما لا يدع مجالاً للشك، أن أخلاقيات دولة إسرائيل لا تسمح لها باختيار الإبادة الكاملة. وعلى الرغم من الاتهامات الكاذبة والشريرة التي وُجهت إلى اسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، فإن الحقيقة هي أن القيم الأخلاقية التي تطورت في إسرائيل لا تسمح لها بارتكاب أيّ فعل قريب من الإبادة الجماعية.
- لذلك، ومن أجل أن تتمكن إسرائيل من الاستمرار في الوجود بأمان وسلام، لا خيار أمامها سوى تبنّي نهج بيرل كتسنلسون [1887-1944]، الذي أدرك فعلاً في سنة 1937 أن "مسألة نقل السكان أثارت لدينا جدلاً: هل هو مسموح، أم محظور؟ ضميري مرتاح تماماً إزاء هذا الأمر، فمن الأفضل أن يكون لدينا جار بعيد على أن يكون لدينا عدو قريب. لن يتضرروا من عملية النقل، ومن المؤكد أننا لن نتضرر. في المحصلة النهائية، هذا إصلاح سياسي واستيطاني يصب في مصلحة كلا الجانبين".
- استشهد زئيف غليلي [صحافي إسرائيلي] بقول رحبعام زئيفي، الذي استشهد، بدوره، ببيرل كتسنلسون، حين قال لأعضاء حركة "هشومير هتسعير": "لم يكن في إمكاننا إقامة مستوطنتَي مرحابيا ومشمار هعيمق، من دون عمليات الترحيل (الترانسفير)... فالكيبوتسات الثمانين التابعة لحركة هشومير هتسعير، جميعها، أقيمت على أنقاض ثمانين قرية، أو قبيلة عربية، تم شراؤها، أو إخلاؤها، أو هرب سكانها، أو تم ترحيلهم قسراً، وفقاً لِما ورد في مقال لزئيف غليلي في 24/3/2006، بعنوان "إرث رحبعام زئيفي".
- لقد أدرك بيرل كتسنلسون، آنذاك، ما يدركه ترامب اليوم، وهو أن الترحيل (الترانسفير) هو الحلّ الأكثر أخلاقيةً الذي يمكن أن تقدمه إسرائيل للسكان وعائلاتهم الذين يُطلق عليهم، اصطلاحاً، "الفلسطينيون". فبدلاً من الموت والمعاناة، مثلما يموت ويعاني سكان غزة حالياً، وبحق، من الأفضل أن يتم نقلهم إلى مكان آخر يتيح لهم فرصة العيش، وفقاً لرغباتهم. هذه هي الفكرة الكامنة وراء إعادة التوطين (Relocation)، ومَن يعارضها، على الأرجح، يعارض أيضاً وجود دولة قومية يهودية.
- الترحيل (الترانسفير) هو ممارسة شائعة لإنهاء النزاعات الدموية التي لا نهاية لها. لقد حاز مهندسو اتفاقيات السلام، التي تضمنت ترحيل ملايين الأشخاص، أرقى الجوائز الدولية. فعلى سبيل المثال، حصل فريتيوف نانسين، الدبلوماسي النرويجي ومهندس "اتفاقية لوزان"، التي تضمنت ترحيل مليون ونصف مليون يوناني من تركيا، ونحو نصف مليون مسلم من اليونان، على جائزة نوبل للسلام لسنة 1923. كذلك، حصل هنري كيسنجر، مهندس "اتفاقيات فيتنام"، التي أجبرت نحو أربعة ملايين شخص على مغادرة فيتنام، لاوس، وكمبوديا، على جائزة نوبل للسلام لسنة 1973.
- بينما حصل ريتشارد هولبروك، مهندس "اتفاقيات دايتون" (1995)، التي أنهت الحروب بين صربيا، وكرواتيا، والبوسنة، وكوسوفو، والتي تضمنت ترحيل 2.5 مليون شخص من هذه الدول، على "وسام الحرية الرئاسي" من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، تقديراً لدوره في تحقيق السلام.
- لم يحصل تشرشل وروزفلت وستالين على جوائز، لكنهم نالوا تقديراً كبيراً لدورهم في اتفاقية بوتسدام (1945)، التي أقرّت طرد ما لا يقلّ عن 13 مليون ألماني من تشيكوسلوفاكيا وبولندا والبلقان. ومُنحت الجوائز والتكريمات لهؤلاء القادة عن جدارة، نظراً إلى نجاحهم في إنهاء الحروب وتحقيق السلام، لأنهم أدركوا أنه من دون الترحيل (الترانسفير)، لن تنتهي الحرب، ولن يتحقق السلام.
- شكلت اتفاقيات السلام بين إسرائيل والعرب، والتي تضمنت ترحيل السكان، قصةً مختلفةً تماماً، إذ تتعلق بدولة وافقت فقط على ترحيل مواطنيها اليهود، في إطار المفهوم الوهمي للأرض في مقابل السلام. فعلى سبيل المثال، اتفاقية السلام مع مصر، التي أقرّت ترحيل نحو 7000 يهودي من سيناء، منحت مناحِم بيغن وأنور السادات جائزة نوبل للسلام لسنة 1978. أمّا اتفاقية أوسلو، وهي اتفاقية السلام مع الفلسطينيين التي أقرّت ترحيل نحو 1000 يهودي، فقد منحت إسحاق رابين وشمعون بيريس وياسر عرفات جائزة نوبل للسلام لسنة 1994.
- أمّا خطة الانفصال التي نفّذها أريئيل شارون، والتي تضمنت ترحيل 8000 يهودي من غزة و600 من يهودا والسامرة، منحته لاحقاً "وسام الحرية الرئاسي" لسنة 2004، تقديراً لـ"تحمُّله المخاطر من أجل السلام." وطبعاً، لا حاجة إلى التذكير بكيفية انتهاء هذا السلام، ولا كيف انتهى سلام أوسلو.
- بعد ترحيل اليهود من قطاع غزة، حصل أريئيل شارون على ثناء واسع من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، إذ اعتُبر إجلاء اليهود عن منازلهم في غزة والضفة الغربية "خطوة جريئة نحو السلام". ولو كان الأمر متروكاً لشارون واليسار، لتمّ ترحيل جميع اليهود المقيمين بيهودا والسامرة من دون تردد. وفي هذا السياق، قدمت خطة بيلين - أبو مازن (1995) اقتراحاً بشأن ترحيل طوعي لليهود في مقابل تعويض مالي.
- لم يكن هذا كافياً، ففي سنة 2004، قدم ران كوهين [كان عضواً في الكنيست عن حركة ميرتس اليسارية] مشروع قانون "الإخلاء والتعويض"، لكنه لم يُعتمد، لحسن الحظ. وكان إيهود أولمرت مؤيداً لهذه الفكرة، وكذلك أريئيل شارون، الذي حاول، لكنه لم ينجح في تنفيذ ترحيل يهود الضفة الغربية بشكل "طوعي".
- وبعكس الحماسة لترحيل اليهود، واجه الرئيس دونالد ترامب انتقادات حادة منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الحديث بجدية عن إمكان إعادة توطين (Relocation) مليون ونصف مليون غزي. ففي 26 كانون الثاني/ يناير 2025، قال: "أريد أن تستقبل مصر هؤلاء الأشخاص، أريد أن يستقبلهم الأردن... نحن نتحدث عن مليون ونصف مليون شخص، ببساطة، سنقوم بـ´تطهير´ كل هذا (غزة)، حتى يتمكنوا ربما من العيش (هناك) بسلام." بعبارة أُخرى، كان ترامب يتحدث عن ترحيل طوعي، وهو أمر ضئيل، مقارنةً بعمليات الترحيل القسري التي نفّذها أشخاص، مثل فريتيوف نانسين وهنري كيسنجر وريتشارد هولبروك، الذين حصلوا على جوائز مرموقة وتكريمات رسمية، تقديراً لأدوارهم في إنهاء النزاعات.
- إن حديث ترامب عن ترحيل سكان غزة كشف عن واقع غير معقول، إذ لا توجد دولة واحدة مستعدة لاستقبال مهاجرين، أو لاجئين من غزة، بدافع إنساني بحت. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد منظمة حقوق إنسان واحدة توافق على خطة ترامب، على الرغم من أن مثل هذه الحلول تم تبنّيه في نزاعات أُخرى حول العالم.
- هذا الوضع يثير الاستغراب، وبصورة خاصة في ضوء القانون الدولي، الذي يُلزم الدول قبول اللاجئين الفارّين من الحروب، بما في ذلك لاجئو غزة. اليوم، باستثناء كوريا الشمالية، لا توجد دولة واحدة في العالم تغلق حدودها أمام لاجئي الحروب القادمين من دولة ليست عدوة لها. وعلاوةً على ذلك، لا توجد دولة أُخرى في العالم، باستثناء كوريا الشمالية، تمنع مواطنيها من الهجرة منها. ومع أن غزة تُعتبر دولة، بحكم الأمر الواقع (de facto)، إلّا إنها تحظر الهجرة منها، في حين أن مئات الآلاف، إن لم يكن أكثر، يرغبون في مغادرتها.
- هذا يعني أن غزة، أو ما يسمى "دولة فلسطين"، والتي تشمل أيضاً الضفة الغربية، تُعدّ حالة فريدة في التاريخ لعدة أسباب: أعلام "دولة فلسطين" ترفرف في العديد من المؤسسات الدولية، على الرغم من أن هذه الدولة غير موجودة حالياً، ولن توجد، ما دامت إسرائيل قائمة كدولة يهودية. اللاجئون العرب من أرض إسرائيل، الذين يُطلق عليهم، زوراً، "الفلسطينيون"، والذين فروا، أو تم ترحيلهم، في الفترة 1946-1948، هم المجموعة الوحيدة من اللاجئين في العالم التي تورّث الأجيال اللاحقة صفة "لاجئ". اليوم، هناك 29.4 مليون لاجئ في العالم، لكن اللاجئين الفلسطينيين هم الوحيدون الذين يتمتعون بوضعية لاجئ يمكن وراثتها وتوريثها، بعكس جميع اللاجئين الآخرين.
- لهذا السبب، فإن وكالة الأونروا، التي كانت مسؤولة في سنة 1950 عن 750.000 لاجئ عربي، أصبحت اليوم مسؤولة عمّا يقارب الستة ملايين "لاجئ فلسطيني"، الذين يعيش معظمهم في سورية والأردن ولبنان. إن الإصرار على الحفاظ على وضعية "اللاجئ الفلسطيني" ليس سوى أداة لإدامة دائرة العنف، بهدف إضعاف إسرائيل حتى تنهار.
- على الرغم من أن الحفاظ على وضعية "اللاجئ الفلسطيني" يتعارض مع القانون الدولي، ومع مبادئ حقوق الإنسان، فإن الجهات التي تعمل على إبقائه تشمل، في الأساس، منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها. معظم هذه المنظمات، إن لم يكن جميعها، يروّج ما يسمى "حق العودة" لنحو ستة ملايين لاجئ فلسطيني، وإذا تحقق هذا، فسيؤدي إلى تدمير الدولة اليهودية. وبما أن معاداة السامية تشمل أيضاً "إنكار حق اليهود في تقرير مصيرهم"، فإن أيّ شخص ينكر حق الدولة اليهودية في الوجود هو معادٍ للسامية، حتى لو كان من ضمن المنظمات، أو المواطنين الإسرائيليين الذين يعملون على تحويل إسرائيل إلى "دولة لكل مواطنيها".
- المنظمات التي تروّج "حق العودة"، تشمل "تحالف النساء من أجل السلام"، و"اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل"، وحركة "ززيم"، و"زوخروت"، و"عدالة"، و"محاربون من أجل السلام"، بالإضافة إلى العديد من المنظمات الأُخرى. هذه المنظمات التي تسعى لإعادة ستة ملايين "لاجئ فلسطيني" إلى أرض إسرائيل، تُعتبر جزءاً مما يُعرف بـ"اعتصامات كابلان".
- لذلك، من غير المستغرب أن تكون ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، التي سبقت السابع من أكتوبر، تعبيراً واضحاً عن الاستعداد للتخلي عن أمن إسرائيل وتعريض وجودها للخطر. كان الهدف من هذه الظاهرة إجبار إسرائيل على أن تصبح "دولة لكل مواطنيها"، ثم إقامة دولة فلسطينية، والتي ستعمل بكل الوسائل الممكنة لتحقيق حلم ياسر عرفات ويحيى السنوار بإقامة دولة فلسطينية تمتد من البحر إلى النهر. إن المعنى الحقيقي لهذين الشرطين لا يمكن أن يكون سوى نفي حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية.
- بالنسبة إلى محبّي إسرائيل، فإن الترحيل (الترانسفير) يُعتبر الحل الأكثر إنسانيةً، والأكثر أخلاقيةً، لضمان استمرار وجود وأمن الدولة اليهودية. فقط الترحيل هو الذي يمكنه وضع حدّ لحرب الجهاد المستمرة هنا بلا توقف، منذ أن بدأ عشرات الآلاف من اليهود بالعودة إلى أرضهم الموعودة في أواخر القرن التاسع عشر.