عملية "طلوع الفجر" إنجاز عسكري كبير إلى جانب فجوة استراتيجية خطِرة
تاريخ المقال
فصول من كتاب دليل اسرائيل
المصدر
معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوي
من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
- عملية "طلوع الفجر" (5-7 آب/أغسطس) كانت المواجهة العسكرية الأكثر حدة في قطاع غزة منذ عملية "حارس الأسوار". لقد أنهت الأحداث فترة من الهدوء استمرت قرابة عام، لم نشهد مثلها في هذه المنطقة منذ عشرات الأعوام. لقد حققت إسرائيل إنجازات كبيرة في المعركة: فجأة، هاجمت الجهاد الإسلامي الذي كان نشطاؤه يخططون للقيام بهجوم بصاروخ مضاد للدبابات في منطقة الحدود مع غزة؛ وجّهت ضربة شديدة إلى قيادة الذراع العسكرية للتنظيم؛ أحبطت أغلبية القصف الصاروخي بواسطة القبة الحديدية، وهو ما قلص الأضرار كثيراً، ومنع وقوع إصابات في الأرواح.
- مع ذلك، طرحت العملية فجوة استراتيجية حادة تتعلق بالسياسة التي دفعت بها إسرائيل قدماً، ولا تزال تدفع بها إزاء قطاع غزة. منذ عملية "حارس الأسوار" (أيار/مايو 2021) اتخذت إسرائيل خطوات اقتصادية غير مسبوقة إزاء المنطقة، تعتمد على 3 افتراضات أساسية: الافتراض الأول - تحسين الوضع المدني سيقلص احتمال نشوب تصعيد، ولا سيما في ضوء قيام رصيد مهم تتخوف "حماس" من خسارته، وفي ظل الضغط الشعبي الذي سينشأ ضد أي طرف سيزعزع الوضع الأمني؛ الافتراض الثاني - أن "حماس" هي المسؤولة الحصرية في جميع المجالات في قطاع غزة؛ والافتراض الثالث - أيّ خرق أمني سيواجَه بردّ عسكري شديد القوة، سيكون موجهاً قبل كل شيء ضد "حماس".
- عملياً، تصرفت إسرائيل في العملية الأخيرة بصورةٍ تناقضُ هذه الاستراتيجيا التي وضعتها، وهو ما أظهر فجوات عميقة فيها. خاضت إسرائيل مواجهة مركزة ضد الجهاد الإسلامي، بينما وقفت "حماس" موقف "المراقب"، ولم تقُم بدورها في "اتفاق" التهدئة: فهي لم تتحرك ضد الجهاد عشية العملية، وعملياً، سمحت بنشوب المعركة، ولم تمارس ضغطاً كبيراً على التنظيم لوقف القتال. لم تكن سياسة "حماس" نتيجة إكراه، بل كانت خياراً. يبدو أن دافع السنوار هو عدم الرغبة في الإساءة إلى صورة "حماس"، بصفتها "أم المقاومة" في المنظومة الفلسطينية، والتقدير أن إسرائيل لا تريد ضرب الحركة، وأن القيود المدنية التي فرضتها على القطاع ستُرفع خلال وقت قصير (وهذا ما حدث فعلاً).
- من جهتها، إسرائيل اعتبرت وقوف "حماس" خارج المواجهة من إنجازات العملية، وأغدقت الثناء على الحركة بسبب الخط الذي انتهجته، وسارعت إلى إعادة السياسة المدنية إلى مسارها (وخصوصاً دخول عمال من غزة إلى إسرائيل)، وفي الحديث الإعلامي والسياسي في إسرائيل، جرى الكلام عن "مصالح مشتركة" بين إسرائيل و"حماس"، وطُرحت أفكار تحدثت عن توسيع الخطوات الاقتصادية حيال القطاع. هذه السياسة يمكن أن يعتبرها الجانب الفلسطيني دليلاً على تخوّف إسرائيلي من الدخول في مواجهة مباشرة مع "حماس"، بكلمات أُخرى، هي تشعر بالردع حيال "حماس".
- بالإضافة إلى ذلك، طُرحت في إسرائيل أفكار بشأن استغلال المعركة الأخيرة من أجل التوصل إلى تهدئة واسعة النطاق في القطاع، مع الاعتماد على نمو اقتصادي متسارع، وربما حدوث اختراق في موضوع الأسرى والمفقودين؛ بينما يتمسك الجانب الفلسطيني بسردية "القصة مفتوحة"، أي أن المعركة لم تنتهِ، بالإضافة إلى الحاجة إلى الانتقام من إسرائيل على الأذى الذي تسببت به، يبرز هذا الصوت من الجهاد الإسلامي. علاوة على ذلك، انتهت المعركة برسالة مقلقة بالنسبة إلى إسرائيل: "حماس" لا تعتبر نفسها مسؤولة عن كل ما يحدث في القطاع، أو أنها لا تعتبر نفسها مضطرة إلى التحرك، مستقبلاً، ضد أطراف في غزة تريد مهاجمة إسرائيل. هذه الأطراف تشعر بأن "الضوء الأحمر" الذي وضعته "حماس" لها في السنة الماضية يتحول، بالتدريج، إلى ضوء "أصفر"، ثم "أخضر".
......
- الخطاب الإسرائيلي بعد العملية يشير إلى تعلُّم محدود من أحداث الماضي. في أيار/مايو 2021، بادرت "حماس"، للمرة الأولى في تاريخها، إلى القيام بعملية ضد إسرائيل ("حارس الأسوار")، وخرقت التفاهمات التي كانت قائمة في القطاع حتى ذلك الحين، والتي ترافقت مع تحسُّن تدريجي للواقع المدني، ومن دون أن يسبق ذلك احتكاك أمني في قطاع غزة. كان الدافع إلى العملية أيديولوجياً واستراتيجياً، وهي لم تكن تسعى لتحسين الواقع الاقتصادي.
- بعد هذه المواجهة، أعلنت إسرائيل "أن ما كان قبل العملية، لن يكون بعدها"، وخصوصاً من خلال الربط بين الخطوات الاقتصادية وبين التقدم في مسألة الأسرى والمفقودين، لكن إسرائيل، عملياً، سرّعت سياستها المدنية، انطلاقاً من الافتراض أن هذا سيقلص من فرص تصعيد جديد في المستقبل، أي بكلمات أُخرى: قامت بالمزيد من الخطوات التي سبق أن فشلت في الماضي. لقد أثبتت عملية "طلوع الفجر" مرة أُخرى الفجوة العميقة التي تنطوي عليها استراتيجية إسرائيل، لكن يبدو أن هذا الأمر لا يلقي بظلاله على نية الاستمرار فيها.
- ... على إسرائيل الاعتراف بأن التسوية الحالية في القطاع محدودة في الأساس، وهي تتعلق بقوات "حماس" في قطاع غزة فقط، ولا تشمل سائر اللاعبين الذين يمكن أن يجروا إسرائيل إلى المزيد من الاشتباكات مستقبلاً. بهذه الطريقة، يمكن أن تواجه إسرائيل مشكلة تتعلق بردودها المستقبلية على حوادث أمنية في القطاع.
- في ضوء العواصف السياسية المتكررة والحكومات القصيرة العمر، من الصعب على إسرائيل صوغ استراتيجيا منتظمة حيال قطاع غزة، يُضاف إلى ذلك مشكلة الذاكرة الجماعية القصيرة في إسرائيل، كما تجسدت في العملية الأخيرة التي اعتُبرت عملية إسرائيلية استباقية غير مسبوقة، بينما عملياً، خاضت إسرائيل عملية مشابهة قبل 3 أعوام ("الحزام الأسود") وكل العمليات العسكرية في العقد الأخير بدأت بمبادرة إسرائيلية...
- إنهاء المعركة يفرض على إسرائيل تفكيراً نقدياً حيال سياستها في قطاع غزة. أولاً، ممنوع أن تسود أجواء النشوة في إسرائيل: فالمعركة جرت ضد طرف "إرهابي" محدود القوة العسكرية، بينما المواجهة المستقبلية ضد "حماس"، ولا سمح الله، ضد حزب الله، ستترافق مع تعرُّض إسرائيل لإصابات أشد بكثير، وستضع إسرائيل في مواجهة تحديات أكبر. علاوة على ذلك، هذه العملية ليست بمثابة "حدث مؤثر" كالمعارك السابقة، مثلاً حرب لبنان الثانية [حرب تموز/يوليو 2006]، أو عملية "الرصاص المسبوك" [2008-2009] التي رافقتها تغييرات عميقة في الواقع، وعلى صعيد الوعي لدى الخصم.
- ثانياً، المطلوب تفكير متحرر من الهواجس التي لها علاقة بالسياسات المدنية. فهذه السياسات يجري الدفع بها قدماً من أجل المحافظة على الهدوء، وقد ثبت وجود فجوات جوهرية فيها. يتعين على إسرائيل فحص إمكانية تعليق هذه السياسات واشتراط استئنافها بقيام "حماس" بفرض إرادتها على فصائل "الإرهاب" في القطاع. هذا الأمر يمكن أن يولد توترات أمنية، لكن على الرغم من ذلك، كما أثبتت المعركة الأخيرة، فإن هذا يمكن أن يحدث عندما تقدّم إسرائيل مبادرات مدنية واسعة النطاق. يجب على إسرائيل أن تكون هي التي تحدد قواعد اللعبة في القطاع، والطلب من "حماس" بصورة قاطعة القيام بدورها، بصفتها المسؤولة عن كل قطاع غزة.