الحرب في أوكرانيا - صعوبة "إنهاء اللعبة"
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- التراجيديا الإنسانية التي تحدث في أوكرانيا مؤلمة، وحتى الآن، لم يتم ترتيب آلية لإنهاء الحرب. أما الهدف الذي حدده كل من الولايات المتحدة وحلف الناتو - فهو تكبيد روسيا خسارة من العيار الثقيل، من شأنها أن تردع بوتين عن عدوان مستقبلي، وفي ذات الوقت إدارة الصراع بحكمة لمنع الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة. ومع تصاعُد وتيرة القتال، يتوجب على الولايات المتحدة وحلفائها بحث التداعيات بسبب الإصابات المتزايدة في صفوف المدنيين، وأيضاً خطورة اتساع الحرب وانزلاقها أبعد من حدود أوكرانيا. استناداً إلى حقيقة أن استمرار الحرب يعزز احتمالات التصعيد إلى مستويات لا يريدها أيّ من الطرفين، على الولايات المتحدة معرفة اللحظة الفاصلة التي من شأنها تحويل مسار الحرب وحدودها، ثم استباقها، عبر الموافقة على مفاوضات مع بوتين وحتى إظهار ليونة معينة، وبصورة خاصة تعهدات بالامتناع من ضم دول إضافية، لها حدود مع روسيا، إلى حلف الناتو.
- قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضرب أوكرانيا عسكرياً، عندما تبين له أنه لا يملك أي أوراق ضغط سياسية قادرة على تغيير النظام السياسي فيها. وأيضاً، بعد أن رفضت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، مطالبه بشأن تقسيم مناطق التأثير في شرق أوروبا وفرض قيود على انتشار قوات الناتو وقدراته العسكرية في المنطقة.
- أخطأت الولايات المتحدة وأعضاء حلف الناتو في فهم النتائج المحتملة لجهودهم في اختراق الحزام الدفاعي الذي يغلف روسيا - دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، من أجل تحجيم روسيا واضعافها ومعرضة للهجوم. فسّر بوتين خطواتهم بأنها تآمر واستعلاء على روسيا، في محاولة لمنع عودتها إلى موقعها التاريخي القوي. واستناداً إلى تقديراته بأن الغرب لن يقف ضده، وأُخرى تفيد بتراجُع مكانة الولايات المتحدة، كقائدة للعالم الحر، قرر أن هذا هو الوقت المناسب للتحرك. والآن، بعد مرور 18 يوماً على بدء الحرب، تبدو تقديرات الرئيس الروسي غير دقيقة بخصوص النتائج والتداعيات غير المقصودة لقرار اجتياح أوكرانيا.
- مجلس المستشارين الذي يحيط بالرئيس بوتين مصغر جداً. وفيه يجلس كلّ من وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان العليا فاليري غيراسيموف، ورئيس جهاز الاستخبارات الوقائي سيرغي نريشكين. وفي دائرة اتخاذ القرار، كما يبدو، لا يشارك كلّ من يعارض سياساته ونهجه. هذه الحقيقة تفسر، ولو بصورة جزئية، القراءة المغلوطة للواقع لدى الرئيس بوتين، وخياراته العسكرية: تقديرات أجهزة الاستخبارات الروسية قللت من قدرات القوات العسكرية الأوكرانية كما أنها لم تتوقع اصرارها وأيضاَ المقاومة وتجنُّد المجتمع الأوكراني ضد الاجتياح الروسي؛ قيادات الجيش الروسي عظّمت شعور القوة لدى بوتين وقدرته على إنجاز انتصار سريع بأثمان معقولة فقط؛ بوتين تبنّى السيناريو الأكثر تفاؤلاً بحرب سريعة، من دون دراسة إمكانية تطورها إلى حرب طويلة مكلفة على صعيد الدماء والأموال، واحتمال هزيمة عسكرية؛ ولقد تفاجأ متخذو القرارات في موسكو بردّة فعل الغرب، وتوحد حل الناتو بهدف عزل روسيا وإرغامها على دفع ثمن عالٍ جداً. قدّر بوتين والمقربون منه أن الغرب سيفضل العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، لكنهم تفاجأوا بحجم العقوبات - رقم قياسي يقدَّر بـ5000 بند - مع إصرار خاص على تطبيقها. هذا بالإضافة إلى أن دول الناتو فهمت أن عليها زيادة الاستثمار في الأمن، وتزايد الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على حليفاتها في أوروبا للتوقف عن شراء النفط الروسي، وبصورة خاصة في المدى المتوسط والبعيد.
صراع على مستويين
- عملياً، يدور الصراع في أوكرانيا على مستويين: الأول، على المستوى الثنائي - حرب بين روسيا وأوكرانيا لفرض التأثير الروسي في جارتها الغربية. والثاني هو الجبهة الإقليمية والعالمية، بين الولايات المتحدة والناتو من جهة، وروسيا من جهة أُخرى. وخلالها يحدث الصراع على حدود التأثير في أوروبا وقواعد السياسة الدولية. من جانبه، يسعى بوتين إلى توسيع إطار التأثير الروسي لدول شرق أوروبا وكبح توسُّع الناتو شرقاً. وفي المقابل، تناضل الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتها الدولية وأمن حلفائها، وسط مخاوف من إسقاطات الصراع مع روسيا ومفاقمة التنافس بين الدول العظمى، وخصوصاً المنافسة بينها وبين الصين.
- تتخوف دول الناتو وتتفادى التدخل عسكرياً بصورة مباشرة إلى جانب القوات الأوكرانية، خوفاً من قتال مباشر مع الجيش الروسي. صحيح أن هناك مطالبات غربية بالتدخل عسكرياً في القتال، كفرض حظر جوي في سماء أوكرانيا. لكن فرض حظر جوي كهذا، سيفرض على مقاتلات سلاح الجو الأميركي والناتو الخروج في جولات في سماء أوكرانيا وإسقاط مقاتلات ومروحيات روسية تخترق هذه الأجواء، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا ستحارب، الواحدة منهما الأخرى، وهذا كله لتحقيق إنجاز صغير ومحدود، وخصوصاً أن لدى روسيا القدرة على قصف مدن في أوكرانيا بصواريخ أرض - أرض بدلاً من الطائرات. اقتراح آخر تم طرحه، هو القيام بتحديد ممر إنساني آمن غرب أوكرانيا، في المناطق التي لم يحتلها الروس بعد، يكون الهدف منه تحديد منطقة آمنة للاجئين الأوكرانيين تحميها قوات الناتو بغطاء سياسي تضمنه دول الأمم المتحدة، وتمنع في الوقت عينه تقدُّم القوات الروسية. النتيجة الفعلية لهكذا خطوة ستكون تقسيم أوكرانيا إلى جزئين: الأول تحت سيطرة روسيا، والثاني غربي تحت سيطرة الناتو. أما النتيجة المتوقعة فستكون خلق منطقة احتكاك مباشر ما بين الجيش الروسي وقوات الناتو، مع احتمال عالٍ جداً للانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة. لذلك، فإن خيار الولايات المتحدة والدول الأوروبية هو الامتناع من قتال عسكري مباشر، والاستمرار في الضغط من خلال العقوبات الاقتصادية، ومن خلال الاستمرار في إمداد الجيش الأوكراني بالأسلحة، ومراقبة الجيش الروسي وهو يغرق في الوحل الأوكراني، ويتكبد الخسائر في الأرواح، ولا يستطيع تحقيق أهدافه.
- المساعدات الغربية للجيش الأوكراني تشمل تقديم معلومات استخباراتية محدثة ودقيقة في أغلب الأحيان بشأن التحركات الروسية؛ وتزويد أوكرانيا بعدد كبير من الصواريخ المتحركة المضادة للدبابات، ومن ضمنها صواريخ Javelin، وصواريخ Stinger المضادة للطائرات، التي يمكن تشغيلها على يد مجموعات صغيرة ومتحركة موزعة ومستقلة؛ تزويد وتشغيل طائرات هجومية من دون طيار من تركيا وبولندا ودول أُخرى. لذلك، فالولايات المتحدة والناتو تؤثران فعلاً في القتال في أوكرانيا، من دون مقاتلة روسيا بصورة مباشرة. لكن الظلم بأن الصراع يدور على حساب الأوكرانيين، الذين يدفعون الثمن بالأرواح، كما تزداد أعداد النازحين (أكثر من 2.5 مليون نازح حتى الآن) إلى خارج حدود الدولة، بالإضافة إلى دمار كبير يزداد مع كل يوم يمر في القتال.
الصعوبة في "إنهاء اللعبة"
- ترفض الولايات المتحدة، علناً، المفاوضات مع روسيا، لكنها تسمح بمفاوضات ثنائية بين روسيا وأوكرانيا، وكذلك بمحاولات الوساطة، وضمنها ما يقوم به رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت. ومن المستبعد أن تؤدي هذه المفاوضات الثنائية إلى وقف إطلاق النار. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين خاض هذه الحرب لتغيير قواعد اللعبة بين القوى العظمى، وليعيد إلى روسيا موقعها كقوة عظمى، وليعيد أيضاً أوكرانيا إلى موقعها الطبيعي بالنسبة إليه - دولة برعاية روسية. وعلى ما يبدو، أنه كلما ازدادت الصعوبات في الدفع قدماً نحو تحقيق الأهداف العليا في الصراع مع الغرب، وكلما تعرقلت الخطط الحربية الروسية، يبدو بوتين أكثر استعداداً لإجراء مفاوضات مع القيادة الأوكرانية، الفاقدة للشرعية، في نظره. تطرح روسيا مطالب لوقف إطلاق النار: وقف المقاومة العسكرية الأوكرانية؛ الاعتراف بشبه جزيرة القرم كدولة مستقلة؛ الاعتراف بجمهوريات الانفصاليين في دونيسك ولوجانسك كدول مستقلة؛ تعهُّد أوكراني منصوص عليه في الدستور، بالحياد وعدم الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي؛ نزع سلاح الجيش الأوكراني.
- بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن مرحلة "نهاية اللعبة" يجب أن تستند إلى تفاهمات روسية - أوكرانية، من دون مقابل كبير لروسيا إلا تخفيف العقوبات، وتحديداً، من دون تنازلات في مجال انتشار قوات الناتو. من المهم لواشنطن أن تثبت أن لدى الناتو القوة والإرادة، كما التصميم على الدفاع عن كل شبر من أراضي الدول الشريكة فيه، كما تعهد الرئيس بايدن. لكن، في ظل انعدام الرغبة في منح بوتين أي إنجاز من طرف الناتو والولايات المتحدة، فأنه مرغم على إدارة المفاوضات خلال القتال على أمل تحقيق أهدافه. لذلك، يستمر الجيش الروسي في جهوده لمحاصرة العاصمة كييف، بموازاة محاولات مستمرة لاستهداف الرئيس فولوديمير زيلينسكي ذاته؛ فصل أوكرانيا عن البحر الأسود؛ السيطرة كلياً على المناطق الشرقية التي تم إعلان استقلالها من موسكو؛ واحتلال مدن رئيسية في أوكرانيا.
- إن لم يكفِ هذا، ولم يستجب الغرب بالإيجاب لمطالب بوتين منه، فمن المتوقع أن يصعّد الهجوم العسكري على مدن أوكرانية واحتلالها، والسيطرة على مفاعلات طاقة نووية - تضاف إلى ما تمت السيطرة عليه فعلاً، بهدف قطع الكهرباء عن الدولة، وهو ما سيعزز المخاوف من خطر تسرّب إشعاعات نووية، وكذلك التهديد باستعمال أسلحة غير تقليدية - كيميائية ونووية. ومن المهم الإشارة إلى أن روسيا رفعت درجة التأهب النووي. وفي عقيدتها النووية من سنة 2020، جرى الحديث عن أنها ستبحث في الاستعمال الأول للسلاح النووي في ظروف "هجوم غير تقليدي يهدد وجود الدولة". في هذه المرحلة، روسيا بعيدة عن الانهيار (يُشار إلى أنه لا يوجد أي دولة نووية تعاملت مع احتمال انهيارها بسبب ضغوط اقتصادية وسياسية). هذا هو السبب الذي من أجله تم رفض كافة الاقتراحات التي جرى طرحها في الغرب، وتدفع باتجاه محاولة إسقاط بوتين عن الحكم.
صعوبة اكتشاف نقطة التحول
- على الرغم من طموح الولايات المتحدة وحلفائها "لتركيع بوتين"، عليهم دراسة تداعيات استمرار القتال بسبب تراكُم حالات استهداف المدنيين في أوكرانيا، وأيضاً بسبب احتمال اتساع رقعة الحرب خارج حدود أوكرانيا، وانزلاقها إلى حرب غير تقليدية. الهدف الأساسي الذي وضعته الولايات المتحدة أمامها في هذا الوقت هو خسارة روسية ثقيلة: سياسية وعسكرية واقتصادية بسبب الحرب على أوكرانيا، لردع بوتين مستقبلاً. لكن، كلما ازدادت خسائر بوتين، كلما ازداد تمسكاً بأهدافه وكان تقديمه للتنازلات أصعب. النتيجة المحتملة ستكون استمرار الحرب، مع تصاعُد احتمالات ومخاطر التصعيد ووصولها إلى مراحل لا يريدها أيّ من الطرفين. لذلك، على الولايات المتحدة استباق نقطة التحول في فقدان السيطرة على الوضع، والدفع قدماً بحوار مع روسيا بهدف إنهاء الحرب ومنع استمرارها. وفي إطار هذه التسوية، على الولايات المتحدة أن تبدي ليونة وتتعهد حتى بعدم ضم دول إضافية، لديها حدود مشتركة مع روسيا، إلى حلف الناتو. التراجيديا الإنسانية التي تحدث في أوكرانيا مؤلمة، والشعب الأوكراني يستحق الحياة بحُرية، وعلى الولايات المتحدة والناتو إدارة الصراع بحكمة، لمنع تكرار أحداث مشابهة، ووقف الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة.