"العودة السريعة للعقوبات" إلى طريق مسدود: اقتراح القوى الكبرى عائق في وجه إعادة العقوبات ضد إيران
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

•وفق تقارير إعلامية، فإن أحد المواضيع الرئيسية التي كانت محل خلاف في السباق إلى الموعد النهائي للتوصل إلى اتفاق شامل بشأن برنامج إيران النووي - المحدد في 30 حزيران/يونيو - أصبح على طريق الحل. فقد أفادت وكالتا "رويترز" و"أسوشيتد برس" أخيراً، أن مجموعة الدول الخمسة زائد واحد اتفقت في ما بينها على آلية بشأن كل ما يتعلق بما اصطلح على تسميته "العودة السريعة للعقوبات". وأشارت مندوبة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة سمنثا باور في شهادتها أمام الكونغرس في 16 حزيران/يونيو الجاري، إلى هذا الأمر كذلك. ومن حيث المبدأ، سوف تمكّن هذه الآلية الدول الست الكبرى من إعادة العقوبات المفروضة على إيران، في حال خرقت هذه الأخيرة تعهداتها بموجب الاتفاق.

•وفي خلفية الأمور ينبغي التذكير بأن غاية العودة السريعة للعقوبات ستكون التصدي للمشكلة البنيوية الأساسية القائمة في أي اتفاق بشأن الملف النووي: انعدام التوازن في الترتيب الزمني للإجراءات التي ستؤخذ. فمن جهة، إن الإجراءات التي ستنفذها القوى الكبرى بموجب الاتفاق، ليست في صالحها: إذ ينتظر منها رفع كل العقوبات على الفور (مثلما لا تزال تطالب إيران علناً)، أو على الأقل، رفعها تدريجياً في الفترة الأولى لتنفيذ الاتفاق الذي سيجري التوصل إليه. ومن جهة أخرى، فإن الإجراءات التي ستنفذها إيران في صالحها. وبموجب بنود الاتفاق العديدة، تتعهد الجمهورية الإسلامية بتأجيل برنامجها النووي لفترة مهمة تصل إلى عشرة أعوام أو أكثر. وفحوى الأمر هو أنه إذا لم يزعجوا إيران بعد رفع العقوبات، فيمكنها أن تمارس الخداع. وفي هذه الحال، هناك القليل فقط الذي تستطيع القوى الكبرى فعله لمعاقبتها.

•قد تنشأ مشاكل من هذا القبيل في كثير من الأحيان في سياقات التعاملات التجارية، ويمكن التغلب عليها. وأبرز مثل على ذلك هو اتفاق القرض الذي بموجبه يحول المقرض المال بحوالة مصرفية في اليوم الأول من الاتفاق، في حين يسدد المدين القرض على امتداد فترة زمنية معينة. ويضمن المقرض استرداد ماله بواسطة حق الحجز، والرسوم، والضمانات. وإذا لم يسدد المدين قرضه يلجأ الدائن إلى تنفيذ احدى الضمانات التي بيده. وبالطبع، هذه العملية ليست بسيطة إلى هذا الحد.

•قد يكون للاتفاق النووي مع إيران ديناميكية مماثلة إذا لم تلتزم إيران بتعهداتها بموجب الاتفاق وأضحت القوى الكبرى في وضع المطالبة بحق إعادة فرض العقوبات. من الناحية النظرية، يمكن أن تجمد إيران مليارات الدولارات في حساب ائتماني، ويحق لمجموعة الخمسة زائد واحد وضع يدها على هذا المبلغ إذا خرقت طهران تعهداتها. لكن يبدو أن خطوة من هذا القبيل ليست واقعية. بدلاً من ذلك، طرح المفاوضون فكرة "العودة السريعة للعقوبات": والمقصود بذلك أداة تسمح بتسديد ضربة معاكسة للاقتصاد الإيراني في حال عدم امتثال إيران للاتفاق. لكن، في هذه الحال، سوف تواجه القوى الكبرى مخاطر أكبر من تلك التي يصادفها مقرض المال العادي. فإذا أراد مقرض المال ممارسة حق استرداد ماله في حال عدم التزام المقترض بتعهداته بموجب الاتفاق، يستطيع استخدام وسيلة شرعية لرفع الظلم عنه، وهي ما توفره الدول بواسطة قوانينها. وإذا رفض المقترض، يحق للمقرض التوجه إلى القضاء. وإذا كانت السلطة القضائية في الدولة مستقلة، فهو مطمئن إلى أنه سيجري تعويضه في نهاية الأمر بهذا القدر أو ذاك.

•أما في الملف النووي الإيراني، فهناك ثلاثة تحديات تواجه القوى الكبرى: صدور القرار، الإنفاذ [التطبيق]، والفترة الزمنية المنقضية إلى حين يعود [مجدداً] تأثير العقوبات الاقتصادية عملياً. المشكلة الأولى، هي مشكلة القرار: من يقرر إذا كانت إيران بالفعل تنتهك تفاهمات الاتفاق؟ في الاتفاقات القضائية النموذجية، يعود الفصل في موضوع النزاع إلى محكمة، أو - إذا اختار الطرفان خلاف ذلك - إلى فريق من المحكّمين. وفي القانون الدولي لا يوجد محكمة ملزمة يمكنها أن تتخذ قرارات قابلة للإنفاذ. وهذا الوضع لا يترك سوى خيار التحكيم. تستطيع الدول الست وإيران تشكيل هيئة تحكيم، توكل إليها صلاحية تقرير ما إذا كانت إيران تتقيد بالاتفاق أم لا. وبحسب الهيكلية النموذجية لهيئات التحكيم، يختار كل طرف من الطرفين - الدول الست وإيران - محكماً واحداً، وهؤلاء المحكمان يختاران العضو الثالث في هيئة التحكيم.

•مع ذلك، لا يبدو أن المحادثات تسير في هذا الاتجاه. وفق التقارير التي أوردتها وكالتا "رويترز" و"أسوشيتد برس"، ستشكَّل هيئة البتّ في موضوع الخلاف من مندوب عن كل دولة من الدول الست ومن مندوب عن إيران. في هذه الحال، سيكون جميع الأطراف منغمسين مباشرة في عملية اتخاذ القرار، خلافاً لوضع يكونون فيه موجودين خارج هيئة تحكيم مستقلة (في الظاهر). بالإضافة إلى ذلك، إذا كانت الهيئة الموكل إليها الفصل في الأمر والمكونة من مندوبي الدول الست وإيران مطالبة بأن تأخذ قراراتها بالإجماع (مثلما أوردت التقارير)، فستكون المنظومة بأكملها مشلولة كلياً. وورد أيضاً في تقرير لوكالة "رويترز" أن قرارات المحكمين ستكون غير ملزمة، الأمر الذي سيوفر أساساً قانونياً يسمح لدول بالتهرب كلياً من القرار الذي سيعلن. ووفق وكالة "أسوشيتد برس،" سوف يصدر قرار نهائي بعيد صدور قرار بأغلبية أصوات الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وسيجري تصويت من هذا القبيل – بقي هذا الموضوع مبهماً - فقط إذا توصلت هيئة التحكيم بالإجماع، إلى الاستنتاج بأن إيران تخرق الاتفاق. ويمكن عرقلة هذا الاستنتاج بسهولة، إذ يكفي أن تقوم دولة واحدة من الدول الست بتعليق موافقتها عليه.

•إن نقطة الضعف الثانية في عملية إعادة فرض العقوبات تكمن في الإنفاذ [التطبيق]. وحتى لو توصلت هيئة تحكيم افتراضية إلى استنتاج فيما يتعلق بقرار يفترض أن يكون ملزماً، أن إيران تنتهك تفاهمات الاتفاق، فهناك دول لديها مصالح تجارية على نطاق واسع لن تعاود بالضرورة فرض العقوبات. حتى الآن، كان نظام العقوبات ضد إيران صامداً بشكل جيد، وكانت اقتصادات رائدة في العالم تلتزم بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لكن لا يوجد أي يقين بأن هذا النمط سوف يستمر بعد رفع العقوبات. وقد يتبين لاحقا أن الدول التي ستمتنع عن الموافقة على التوقيع على اتفاق مع إيران – روسيا، الصين، أو ربما دول من خارج مجموعة الدول الست مثل الهند، ستكون أقل استعداداً لتطبيق نظام العقوبات ضد إيران.

•إن نقطة الضعف الثالثة في آلية إعادة فرض العقوبات، هي الفترة الزمنية التي ستمر قبل أن يتضح تأثير العقوبات الاقتصادية. فالعقوبات الاقتصادية لا تؤثر منذ اليوم الأول لفرضها. وتحتاج الهيئات التجارية إلى وقت للتراجع عن تفاهمات وعقود. ويمر زمن إضافي قبل أن يتجلى تأثير العقوبات على الاقتصاد، وكي يتحول لاحقاً إلى ضغط سياسي. ومثلما أشار فريق العمل في موضوع إيران والذي مقره في واشنطن، تستمد العقوبات مغزاها، إلى حد كبير، من تأثيرها السيكولوجي على مسارات أخذ القرار لدى قطاع الأعمال، ومن الصعب تجديد العقوبات بعد أن ترفع عند التوقيع على الاتفاق الشامل. وتمنح هذه الديناميكية إيران ميزة متأصلة على الطرف الثاني؛ فعندما ترفع العقوبات، الوضع الافتراضي هو أنها لم تعد قائمة.

•من بين المشكلات الثلاث المذكورة أعلاه، يبقى القرار [بخصوص التزام إيران بالاتفاق] هو المشكلة الرئيسية، وإذا وجد حل لها، فيمكن على الأقل أن يتاح للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إعادة فرض نظام العقوبات تحت غطاء شروط الاتفاق. ومع أن تفاصيل الاتفاق لا تزال غير منجزة، إلا أنه يبدو في المرحلة الحالية على الأقل، أن الآلية التي اختارها الطرفان هي لفائدة إيران. فالحكومة الإيرانية ستكون ممثلة مباشرة في غرفة صناعة القرارات. وكل واحدة من الدول الست ستكون جزءاً من عملية الفصل في موضوع الخلاف – نكرر مجدداً، ليس بواسطة تمثيلها بمحكم وحيد يعمل باستقلالية عن ممثلي الأطراف الرسميين. وبحسب سير عمل هذه الآلية، قد يتسنى لإيران الاستفراد بدولة واحدة من الدول الست بوصفها الحلقة الأضعف، من أجل إحباط خطة العودة السريعة للعقوبات. وطبقاً لشروط الاتفاق، قد لا يصل الموضوع إلى تصويت أكثرية الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن. 

•وفي شهادتها أمام الكونغرس، وعدت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سمنثا باور، بأن الولايات المتحدة "ستحتفظ بقدرتها على إعادة نظام العقوبات متعددة الأطراف، حتى من دون دعم روسيا أو الصين". وحده الزمن كفيل بالكشف إن كان هذا الأمر بسيطاً إلى هذا الحد.

•إن اختيار هذه الآلية لتسوية الخلافات مذهل حقاً. فقد حشدت القوى الكبرى الدبلوماسيين والمحامين البارزين لديها من أجل مفاوضات الملف النووي الإيراني. وهؤلاء يعرفون حقاً كيف يختارون آلية التحكيم. لكنهم اختاروا آلية سياسية تهدف إلى إبقاء القرار بأيدي الحكومات، بدلاً من أن يوكلوها إلى محكمين مستقلين. هناك الذين سيقولون إن إيران كانت على استعداد للموافقة على آلية تحكيم. وسيقول آخرون إن اللوم يقع على القوى الكبرى لأن قسماً منها على الأقل يريد إبقاء سيطرته على إعادة فرض العقوبات. وفي كافة الأحوال، إن قرار استخدام هيئة سياسية وليس هيئة قضائية، من أجل تقرير مصير العقوبات، يشكل علامة مبكرة على أن العقوبات لن تعود على الفور. ولو أراد الأطراف [الإبقاء على إمكانية] استئناف العقوبات، لكانوا اختاروا مجموعة أدوات تسمح بتطبيقها فعلياً.

 

•هذا لا يعني بالضرورة أن الاتفاق الذي تلوح بشائره اتفاق سيئ. ومن حيث المبدأ، قد تتغلب مزايا أخرى متأصلة فيه على هذا الخطر الكامن. لكن مغزى الأمر هو أن أولئك التواقين لرؤية إيران تمتثل لتعليمات الاتفاق سيحتاجون إلى رافعة أخرى غير العقوبات، وهذه الرافعة قد تشمل جزرة أو عصاة. وعلى إسرائيل أن تأمل ألا تتضمن هذه الرافعة جزراً، لأن الجزر من شأنه قطعاً أن يتجلى بدعم قوى كبرى لمصالح إيران في المنطقة. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يباشر صانعو السياسات في إسرائيل التفكير بالعصي. وبعيداً عن الخيار العسكري، قد تشمل هذه العصي عقوبات من طرف واحد تفرضها الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية في حال فشل آلية صنع القرار للدول الست. والمطلوب هو أن تمعن حكومة إسرائيل التفكير منذ الآن، في طريقة تسمح بتشجيع آلية من هذا النوع، وفي توقيتها، وفي كيفية تحقيقها.