الجمود السياسي والاستراتيجي للحكومة يشكلان خطراً على مصير المشروع الصهيوني
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

•منذ بداية الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم، يتعاظم الشعب اليهودي في إسرائيل ديمغرافياً وجغرافياً على الرغم من استمرار النزاع مع الفلسطينيين. نجحنا في ذلك لأننا تصرفنا بحكمة ودهاء، ولم ننشغل بمحاولة يائسة لإقناع أعدائنا بأننا على حق.

•اليوم وللمرة الأولى أشعر بقلق حقيقي على مصير المشروع الصهيوني. وما يثير قلقي هو الكتلة الحرجة من التهديدات التي نتعرض لها من جهة، وعمي الحكومة وجمودها السياسي والاستراتيجي من جهة أخرى. فمن المعروف أن دولة إسرائيل تعتمد على الولايات المتحدة، لكن تدهورت العلاقات اليوم بينهما إلى مستوى لم تشهده الدولتان من قبل. أما أوروبا التي تشكل أكبر سوق بالنسبة إلينا، فقد تعبت منا وتتوجه اليوم نحو فرض العقوبات علينا. وتعتبر الصين إسرائيل رائدة في التكنولوجيا فائقة التطور، ونحن من أجل المال نبيعها ثرواتنا الوطنية. وروسيا في الأساس ضدنا وتدعم أعداءنا وتساعدهم.

•لقد بلغ العداء للسامية ولإسرائيل مستوى لم نعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ودبلوماسيتنا الرسمية والدعائية تمنى بفشل ذريع، في حين تحقق الدبلوماسية الفلسطينية إنجازات كثيرة ومهمة في العالم. في الغرب، وبصورة خاصة في الولايات المتحدة، تشكل الجامعة المكان الذي تنمو فيها القيادات المستقبلية في تلك الدول، ونخسر نحن هذا العالم الأكاديمي في نضالنا من أجل دعم إسرائيل. ويزداد عدد الطلاب اليهود الذين يديرون ظهورهم لإسرائيل. وكبرت الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل والامتناع عن الاستثمار فيها وفرض عقوبات عليها (BDS)، التي تعمل على نزع الشرعية عن إسرائيل، وينتمي إليها عدد غير قليل من اليهود.

•في عصر الحروب غير المتناظرة، لا نستخدم قوتنا الكاملة فلذلك تأثير سلبي في قدرتنا على الردع. كما أن الجدل حول ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في إسرائيل [أزمة أسعار الشوكولا بحليب والدعوة التي أطلقها بعض الشباب الإسرائيلي للهجرة الى برلين حيث الأسعار أقل بكثير]، يشير إلى تآكل التضامن الاجتماعي الذي يعتبر شرطاً ضرورياً لاستمرار وجودنا هنا. ويشير تسابق الإسرائيليين للحصول على جواز سفر أجنبي والتوق إلى الحصول على جنسية أجنبية، إلى تصدع الشعور بالأمان.

•وللمرة الأولى أشعر بالقلق عندما أرى صلف أطراف أساسيين في الصهيونية الدينية وتبجحهم، بالإضافة إلى كثير من الفكر المسيحاني المندفع إلى تحويل الصراع إلى حرب دينية. فحتى الآن كان النزاع سياسياً محلياً بين شعبين صغيرين على أرض محدودة وصغيرة، ولكن قوى أساسية في الصهيونية الدينية تفعل بصورة غبية كل شيء من أجل تحويل هذا الصراع إلى حرب رهيبة يقف فيها العالم الإسلامي كله ضدنا. وفي الوقت عينه، ألاحظ جهل اليمين السياسي في إسرائيل، في فهم المسارات الدولية وانعكاسها على استقلالنا. ويدفع هذا اليمين بغبائه وعماه شعب إسرائيل إلى وضع مهين "أمة تعيش وحدها ولا تهتم بالأجانب".

•إنني أشعر بالقلق لأنني أرى التاريخ يعيد نفسه. أرى شعب إسرائيل يندفع بعمى في نفق الزمن ويعود إلى عصر بار كوخبا في حربه على الإمبراطورية الرومانية. لقد كانت نتيجة تلك المواجهة نحو مئة عام من الوجود القومي في أرض إسرائيل، تلاها 2000 عام في المنفى.

•أشعر بالقلق لإدراكي أن المنفى يخيف فعلاً القطاع العلماني فقط الذي يتمركز في وسط الحياة السياسية ويسارها. إنه القطاع العاقل والليبرالي الذي بالنسبة إليه المنفى هو دمار الشعب اليهودي، في حين يعيش القطاع الحريدي في إسرائيل لأن ذلك يريحه. بالنسبة إليه إسرائيل وبروكلين متساويتان، ويستطيع الحريديم مواصلة العيش كيهود في المنفى وهم ينتظرون بصبر مجيء المسيح المخلّص. وبالمقارنة، فإن الصهيونية الدينية تقدس الأرض أكثر من أي شيء آخر، ومن أجلها هي مستعدة لأن تضحي بكل شيء حتى لو كان الثمن فشل الوطن الثالث وخطر دماره. 

•أتذكر مناحيم بيغن الذي كان من آباء رؤيا أرض إسرائيل الكاملة، وقد ناضل طوال حياته من أجل تحقيق هذا الحلم. لكن عندما انفتح الباب نحو السلام مع مصر، أكبر أعدائنا، تخلى من أجل السلام، عن سيناء- هذه الأرض المصرية التي تفوق مساحتها ثلاث مرات مساحة دولة إسرائيل ضمن حدود الخط الأخضر. وهذا يعني أن هناك أموراً أكثر قداسة من الأرض، فالسلام هو شريان حياة أي ديمقراطية حقيقية، وهو أكثر أهمية من الأرض. ويقلقني أن أجزاء كبيرة من شعب إسرائيل نسيت أو تخلت عن الرؤيا الأساسية للصهيونية: قيام دولة يهودية وديمقراطية للشعب اليهودي في أرض إسرائيل. لم تحدد هذه الرؤيا حدودنا، وسياسة الممانعة الراهنة تقوّض أسسها.

•ماذا يتعين علينا أن نفعل؟ يجب أن ننشئ أداة توقف التدهور الحالي وتغير الواقع تغييراً كلياً. وأقترح إنشاء هذه الأداة بالعودة إلى استخدام مبادرة الجامعة العربية التي طرحتها السعودية سنة 2002 [خلال مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في بيروت في ذلك العام]. يتعين على الحكومة أن تتخذ قراراً بأن تشكل هذه المبادرة أساساً للمحادثات مع دول عربية معتدلة على رأسها السعودية ومصر. ومن أجل الإعداد لهذا الإعلان يجب على الحكومة القيام بثلاثة أمور: أ- أن تضع لنفسها استراتيجية للمفاوضات المستقبلية وتحدد موقفها من الموضوعات العامة التي تضمنها اقتراح الجامعة. ب- فتح قناة حوار سري مع الولايات المتحدة من أجل درس الفكرة. ج- فتح قناة حوار سرية أميركية- إسرائيلية مع السعودية من أجل التوصل مسبقاً إلى التفاهم على نطاق الموضوعات التي ستُطرح في المحادثات والتنسيق المرتقب. وعندما تستكمل هذه الخطوات السرية، تعلن إسرائيل استعدادها للبدء بالمحادثات استناداً إلى وثيقة الجامعة العربية.

•لا شك لديّ في أن الولايات المتحدة والسعودية، وكل منهما لأسبابه الخاصة، ستتجاوبان مع المبادرة الإسرائيلية التي ستشكل رافعة ستؤدي إلى تغيير جذري للواقع. ومع كل انتقاداتي لاتفاق أوسلو، لا يمكن أن نتجاهل أنه للمرة الأولى في تاريخ الصراع، وفور توقيع الاتفاق بدأت جميع الدول العربية تقريباً تتحدث معنا وفتحت أبوابها أمامنا وبدأت العمل على بناء تعاون لم يسبق له مثيل في المجالات الاقتصادية وغيرها.

•لست ساذجاً كي أظن أن هذا التحرك سيؤدي إلى تحقيق السلام المنتظر، لكن لا شك لديّ في أن مثل هذه العملية التي ستكون طويلة وشاقة ستثمر في البداية عن خطوات بناء للثقة، ومن بعدها تفاهمات أمنية يكون طرفا النزاع مستعدين للتعايش معها. ومن المفترض أن تكون عملية التفاوض مشروطة بالتهدئة الأمنية التي يلتزم الطرفان المحافظة عليها. وليس من المستبعد في ما بعد أن يوافق الطرفان على البحث في تسويات ثنائية تشجع فكرة التعايش جنباً إلى جنب. وإذا ترسخت الثقة المتبادلة، ومثل هذا الاحتمال كبير ولا سيما تحت مظلة أميركية وسعودية، فإنه سيكون من الممكن التوصل إلى محادثات بشأن الحل الكامل للنزاع.

•إن مثل هذه المبادرة تتطلب زعامة حقيقية وشجاعة لا نراها في الوقت الحاضر. لكن إذا أدرك رئيس الحكومة خطورة التهديدات التي تواجهنا في الوقت الحاضر، وحماقة السياسة الحالية التي تقف وراءها أطراف قوية في الصهيونية الدينية واليمين المتشدد، والنتائج المدمرة- التي قد تصل إلى تدمير الرؤيا الصهيونية- فإنه قد يجد الشجاعة من أجل تولي قيادة الخطة المقترحة أعلاه.

 

•كتبت هذه الأشياء لشعوري بأنني أدين بذلك لأهلي الذين ضحوا بحياتهم من أجل تحقيق الصهيونية، ولأولادي وأحفادي ولشعب إسرائيل الذي خدمته عشرات السنوات.

 

 

المزيد ضمن العدد 2023