الولايات المتحدة الأميركية ومسألة المستوطنات: آن أوان التغيير
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– عدكان استراتيجي
المؤلف

ترجمته عن العبرية: يولا البطل

مدخل

شكلت مسألة المستوطنات نقطة خلافية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية منذ وضعت حرب الأيام الستة [1967] أوزارها، ويجوز القول إنها تسببت في تعكير صفو العلاقات بين الطرفين أكثر من أي مسألة أخرى مطروحة بين الدولتين. لقد درجت معظم الإدارات الأميركية، وصولاً إلى إدارة الرئيس رونالد ريغان، على تحديد موقف الولايات المتحدة من المستوطنات بناء على اعتبارين: أولاً، أن المستوطنات غير قانونية؛ ثانياً، أن المستوطنات تعرقل مسيرة السلام. وقد شذّت عن هذه القاعدة إدارتان جمهوريتان: الأولى، إدارة الرئيس ريغان، التي أكدت أنها لا توافق على وصف المستوطنات بأنها غير شرعية.[1]  ومع ذلك، انتقدت إدارة الرئيس ريغان طابع نشاط المستوطنات ووتيرة نموها، واعتبرتهما استيطاناً استفزازياً. أمّا الثانية، فهي إدارة الرئيس جورج بوش (الابن)، التي بلورت مذكرات تفاهم عديدة بشأن مسألة المستوطنات مع كل من شارون وأولمرت، فحواها الاعتراف الفعلي (de facto)، ولكن المقيَّد بطابعه، بالنشاط الاستيطاني، على أساس أن تنفَّذ أعمال البناء وفق إطار متفاهم عليه بين إسرائيل والولايات المتحدة.

وفي الداخل الإسرائيلي أيضاً، كانت هناك خلافات جوهرية في الرأي إزاء مسألة المستوطنات. فلقد اعتبرتها بعض الحكومات ضرورة قومية حيوية لدولة إسرائيل، وعلى الأخص من الناحية الأمنية، واعتبرها آخرون تحقيقاً لعقيدة أيديولوجية - دينية، وحقاً تاريخياً للشعب اليهودي في أرض الأجداد، وثمة من وافق عليها لضرورات ائتلافية، لكن جميع الحكومات استثمرت أموالاً طائلة في المشاريع الاستيطانية، بطرق متعددة.

وعندما نقوّم، في نظرة إلى الوراء، المعارضة الأميركية المديدة للمشروع الاستيطاني، نجد أنها لم تحقق هدفها، فقد تواصل فعلياً نمو النشاط الاستيطاني، وأوجد، كما يبدو، واقعاً جغرافياً وديموغرافياً جديداً لا رجوع عنه في منطقة الشرق الأوسط. وفي ظل هذه الظروف، ينبغي للإدارة الأميركية أن تطرح على نفسها السؤال التالي: ما الفائدة والمغزى من مواصلة المعارضة الجارفة للمشروع الاستيطاني؟ فقد أثبتت التجربة التاريخية أن المعارضة الدولية للاستيطان، ولا سيما المعارضة الأميركية له، والتي حظيت بدعم أوساط عدة داخل دولة إسرائيل، لم تفلح في وقف هذا المشروع القومي. ومن هنا، يجب أن تسأل الإدارة الأميركية نفسها: ألا تلحق المعارضة الأميركية المستمرة للمشروع الاستيطاني [على الرغم من فشلها في تحقيق هدفها] ضرراً بالغاً بنفوذ الولايات المتحدة ومكانتها في المجتمع الدولي، وما هو مقدار هذا الضرر؟ ويفرض نفسه السؤال التالي: أما آن أوان تغيير سياسة الإدارة الأميركية تجاه مسألة المستوطنات؟

فعلى الرغم من إدراك الإدارة الأميركية أنها أخفقت في وقف المشروع الاستيطاني، فإنها لم تتبنَّ يوماً مقترحات للتصالح مع هذه الظاهرة. وتحظى المعارضة الأميركية للمشروع الاستيطاني بدعم وتأييد المجتمع الدولي، الذي يذهب أبعد من الموقف الأميركي في معارضته للاستيطان. وتستند المناهضة الأميركية للاستيطان إلى اعتبارات أخلاقية وقانونية وسياسية، فوفق تصور الإدارات الأميركية المتعاقبة، لا يُلحق المشروع الاستيطاني الضرر البالغ بمصالح الولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً بمصالح دولة إسرائيل. ومن نافل القول إن هذا الموقف الأميركي يحظى بتأييد واسع من جزء من الجمهور ومن الطبقة السياسية في إسرائيل. وبالتالي، من غير المحتمل أن تتصالح الإدارة الأميركية مع المشروع الاستيطاني.

من جهة أخرى، يبدو أن الإدارة الأميركية مدركة أن مواصلة المعارضة الجارفة للاستيطان من شأنها أن تلحق الضرر بمكانة الولايات المتحدة الدولية وبهيبتها، وذلك على خلفية كون هذه السياسة لم تنفَّذ بصورة ملموسة. وكان في وسع الإدارات الأميركية، في الظاهر، أن تصعّد الخلاف بشأن مسألة المستوطنات إلى حد تصدّع العلاقات مع إسرائيل، وحتى إلى حد تطبيق عقوبات ضدها، لكن أياً من تلك الإدارات لم تختر القيام بذلك منذ سنة 1967، إذ يترتب على الإدارة الأميركية التي ستقوم بذلك أن تأخذ في الحسبان عدم استجابة الحكومة الإسرائيلية، وكذلك من غير المؤكد أن يؤدي وقف الاستيطان إلى إحراز تقدم في التسوية السياسية مع الفلسطينيين. فهناك مسائل عالقة أصعب بكثير، ومن ضمنها مطالبة السلطة الفلسطينية بحق العودة الفلسطيني، جزئياً على الأقل، وبتقاسم القدس والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وبالتوصل إلى قرار بشأن حدود الدولة الفلسطينية، الأمر الذي يستدعي تفكيك مستوطنات.

وفي ظل الظروف القائمة حالياً، يكمن الخيار الأكثر منطقية وفاعلية، في أن تسعى الإدارة الأميركية لبلورة وثيقة تفاهمات مع إسرائيل بشأن مسألة المستوطنات. وبمقتضى هذه الوثيقة، سيكون في استطاعة دولة إسرائيل مواصلة المشروع الاستيطاني على قاعدة إطار متفق عليه ومحدد. ويمكن أن تتضمن الوثيقة النقاط الرئيسية المدرجة أدناه:

 أ) تؤكد إسرائيل مجدداً أنها تؤيد صيغة "الأرض في مقابل السلام"، واتفاقيات أوسلو، ومبدأ حل "الدولتين لشعبين".

ب) توضح إسرائيل أن مشروع بناء المستوطنات لن يؤثر في ترسيم خط الحدود المستقبلي بين إسرائيل والدولة الفلسطينية التي ستقام.

ج) تمتنع إسرائيل مستقبلاً من بناء مستوطنات جديدة ومن توسيع نطاق المستوطنات القائمة.

 د) تركز إسرائيل أعمال البناء في المستوطنات الموجودة داخل الكتل الاستيطانية الكبرى.

 هـ) في كافة الأحوال، يستمر البناء داخل المستوطنات فقط بداعي سد حاجات النمو السكاني الطبيعي و"مواصلة الحياة العادية".

 و) تمتنع إسرائيل مستقبلاً عن مصادرة الأراضي الفلسطينية لغاية الاستيطان، وتخفف من تحفيز انتقال [السكان اليهود] إلى المستوطنات.

 ز) تمتنع الإدارة الأميركية من جانبها من الإعراب عن معارضتها للبناء الإسرائيلي في جميع أنحاء القدس.

ومن شأن وثيقة تفاهم كهذه أن تكون مقبولة من جميع حكومات إسرائيل بما فيها اليمينية. فلقد جرى التوصل إلى وثيقة تفاهمات مشابهة بين إدارة الرئيس بوش ورئيس الحكومة أريئيل شارون، ولا يوجد سبب يمنع الإدارة الأميركية الحالية من تبني هكذا وثيقة.



الولايات المتحدة ومسألة المستوطنات: لمحة تاريخية

شكلت مسألة المستوطنات نقطة خلافية، بدرجات متفاوتة من الحدة على النحو السالف الذكر، بين إسرائيل والولايات المتحدة منذ نهاية حرب 1967، وكان لجميع الإدارات الأميركية مواقف علنية مناهضة لظاهرة المستوطنات، بمسوغات متنوعة. وعلى العموم، تركزت المعارضة على اعتبارين، هما:

 أ) أن المستوطنات غير قانونية.

 ب) أنها تشكل عقبة في وجه السلام.

لكن، منذ سنة 1981، وفي إثر إعلان الرئيس ريغان أنه غير موافق على "عدم شرعية" المستوطنات، تركز اهتمام الإدارة الأميركية على قضية تأثير المستوطنات في مسيرة السلام.[2]  وكان مبعوثو الإدارة الأميركية، بين الفينة والأخرى، يتطرقون إلى مسألة المستوطنات بصفتها مكون من مكونات ميل الطرفين – الإسرائيلي والفلسطيني- إلى التصرف بصورة أحادية، وهو الأمر الذي لا تقبل به الإدارة الأميركية. وهكذا، على سبيل المثال، وفي رسالة من الإدارة الأميركية إلى القيادة الفلسطينية عشية مؤتمر مدريد (في 24/10/1991)، ربطت هذه الإدارة معارضتها لظاهرة المستوطنات بمعارضتها الشاملة للخطوات الأحادية الجانب من قبل الطرفين [الإسرائيلي والفلسطيني]. لكن، وفي معظم الحالات، ركزت الإدارة الأميركية على الطرف الإسرائيلي، من دون أن تشير إلى أية خطوة أحادية الجانب من قبل الطرف الفلسطيني.[3]

وفي بعض تصريحات المتحدثين باسم الإدارة الأميركية عن المستوطنات، تجلى موقف مفاده أن مطالبة الإدارة الأميركية إسرائيل بوقف بناء المستوطنات ليس نابعاً من رؤية الإدارة للمصلحة القومية الأميركية فحسب، بل أيضاً من اعتبار هذه الإدارة أن هذا الموقف حيوي بالنسبة إلى المصالح القومية لدولة إسرائيل. ولقد عبّر عن هذا الأمر دانيال كورتزر، السفير الأميركي السابق في إسرائيل خلال ولاية الرئيس بوش الأولى، تعبيراً لا لبس فيه (في 29/5/2002). فبحسب اعتقاده، المدعوم إلى حد كبير بآراء سائدة في أوساط واسعة في إسرائيل، إن مكانة إسرائيل ووضعها الأمني من شأنهما أن يتعززا، إذا هي أوقفت مشروعها الاستيطاني.[4]

ولقد طرح الرئيس بوش حجة إضافية لمعارضة ظاهرة المستوطنات، فبحسب قوله (في 24/5/2006)، إن المستوطنات تؤدي إلى احتكاكات قاسية بين اليهود والعرب، ومن هنا، فهي تساهم في زيادة الكراهية والعنف في المنطقة. ولقد هدفت تصريحات الرئيس في هذا السياق إلى تبرير دعمه لخطة أريئيل شارون لفك الارتباط، وموقفه المتعاطف للغاية مع "خطة التجميع" [وحيدة الجانب] التي اقترحها إيهود أولمرت. وفي الوقت الذي شدد بوش على أهمية أن تعمل إسرائيل في إطار الاتفاق مع الفلسطينيين، امتدح الانسحاب وتفكيك المستوطنات كعاملين يُساهمان في تعزيز التهدئة في المنطقة.[5]

لقد وُضعت أسس هذه المواقف الأميركية من مسألة المستوطنات بعد أشهر معدودة على انتهاء حرب 1967، عندما كانت ظاهرة الاستيطان في مرحلة الطفولة المبكرة، وكانت أبعادها محدودة جداً. ولقد أوضحت إدارة الرئيس جونسون آنذاك موقفها بأنه لا يجوز لحكومة إسرائيل القيام بنشاط في المناطق التي احتلتها خلال حرب 1967، إذا كان من شأنه أن يلحق ضرراً بجهود السلام، وبفرص تحقيق صيغة "الأرض في مقابل السلام". كما أوضحت أن هذا النشاط يشكل انتهاكاً للبند 49 من اتفاقية جنيف، التي تحظر على القوة المحتلة نقل سكانها إلى أي أرض محتلة.[6]

وأضيفت، لاحقاً، لمسات بسيطة إلى تصريحات المتحدثين باسم الإدارة عن مسألة المستوطنات؛ فلقد اختارت إدارة جونسون، على سبيل المثال، في إحدى مواقفها بشأن هذه المسألة أن تربط، ولو بطريقة غير مباشرة، بين الاستيطان والنزاع الإسرائيلي - العربي وشعور إسرائيل بأن العالم العربي يتطلع إلى تدميرها. وتم الربط بين ظاهرة المستوطنات ووضع النزاع القائم. وجرى هذا الأمر، على الأرجح، بسبب قرارات قمة الخرطوم (29 آب/أغسطس- 1 أيلول/سبتمبر 1967)، التي عبرت عن موقف عربي متصلب من التسوية السياسية مع إسرائيل [اللاءات الثلاث]، وبسبب حرب الاستنزاف الدموية على طول جبهة قناة السويس.[7]

وعلى هذه الخلفية، من جملة أمور أخرى، يمكن فهم إصرار الرئيس جونسون على تحميل إسرائيل واجب إقناع العالم العربي بأن ليس لديها مطامع توسع إقليمي يجري تطبيقها بواسطة سياسة الاستيطان. وفي المقابل، طالب [جونسون] العالم العربي بإقناع دولة إسرائيل بأنه تخلى عن فكرة تدميرها. وتنطوي هذه المواقف على براعم توجه بارز أيضاً في إدارات أميركية لاحقة، ينمّ عن تفهم "حق" إسرائيل في مواصلة سياسة الاستيطان، ما دام النزاع قائماً بينها وبين العالم العربي، وما دام لإسرائيل مخاوف من سعي العالم العربي لتدميرها.[8]

ولقد طُرح وضع القدس عامة، والقدس الشرقية خاصة، في بعض هذه التصريحات بشأن مسألة المستوطنات. فكما هو معروف، وبعد حرب 1967، أقرّ الكنيست تعديل أنظمة السلطة والقضاء فأضاف عليها البند 11ب التالي نصه: "يسري تطبيق قانون وأنظمة السلطة والقضاء والإدارة بواسطة إصدار أوامر حكومية في جميع المناطق التي تعتبر جزءاً من أرض- إسرائيل." ولقد سمح هذا التعديل بتطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية بعد مدة قصيرة من إقراره. وفي موازاة ذلك، سرّعت دولة إسرائيل أعمال البناء في القسم الشرقي من المدينة، بهدف تكريس سيادتها على المدينة الموحدة.

وتحفظت الإدارة الأميركية على ما أقدمت عليه إسرائيل، وكررت مجدداً قولها إن القدس الشرقية هي جزء من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967، ويسري عليها بالنسبة إلى البناء الاستيطاني ما يسري على سائر المناطق. ومن وجهة نظر هذه الإدارة فإن جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية التي نفذتها إسرائيل في القدس الشرقية، ومن ضمنها المواقع الأثرية التاريخية والدينية، وتطبيق القانون الإسرائيلي على القدس، هي مخالفة للقوانين والمواثيق الدولية، وتمس بالمصالح المشتركة لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

ففي الخطاب الذي ألقاه مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في إدارة الرئيس نيكسون، شارلز يوست، في 1/7/1969، أوضح أن الإدارة "تأسف وتأسى" (regrets and deplore) لإجراءات إسرائيل في القدس الشرقية. ولقد أعلن السفير الأميركي في الأمم المتحدة أن الإدارة الأميركية تعتبر أرض القدس الشرقية جزءاً من الأراضي المحتلة خلال حرب 1967، وأنه تسري عليها جميع القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بالأراضي المحتلة. وأوضحت الإدارة الأميركية لإسرائيل أن الإجراءات التي اتخذتها لن تؤثر في تحديد وضع القدس في التسوية التي سيتم التوصل إليها.[9]

لكن، وفي معظم إشارات ممثلي الإدارة الأميركية إلى مسألة المستوطنات، برز توجه إلى التقليل من أهميتها في المباحثات المتعلقة بالتسوية الإسرائيلية - الفلسطينية، وإلى تخفيف نبرة المعارضة الأميركية لهذه الظاهرة. ولقد قُدمت تفسيرات عديدة لهذا التحول، ولا سيما الاعتراف بأن:

أ- دولة إسرائيل مصممة على المضي في المشروع الاستيطاني، وبأن ليس لدى المجتمع الدولي عامة، والإدارة الأميركية خاصة، القدرة الفعلية على منعها من تحقيق هذا الهدف.

ب- مسألة المستوطنات ليست سوى واحدة من الموضوعات الخلافية العالقة بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا فائدة من جعلها محور النزاع المتواصل بين الطرفين.

ج- إذا جرى التوصل إلى تسوية نهائية إسرائيلية - فلسطينية، ستكون إسرائيل آنذاك مستعدة لتفكيك مستوطنات، ولنقل المستوطنين إلى أمكنة إقامة أخرى.

ولقد عبّر المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية في إدارة نيكسون، بوضوح عن شعور الإدارة بمحدودية قدرتها على التأثير في كل ما يتعلق ببناء المستوطنات. ففي تطرقه إلى مسألة المستوطنات (في نيسان/أبريل 1973)، أوضح، في معرض استكمال طرحه، أن موقف الإدارة هو أن إسرائيل ملزمة بالعمل وفق اتفاقية جنيف المتعلقة بالأراضي المحتلة. ومع ذلك، أعلن بصراحة أن إسرائيل ترفض بكل بساطة تنفيذ الالتزامات التي قطعتها بموجب هذه الاتفاقية.[10]

وهناك مثال آخر على اعتراف الإدارة الأميركية الضمني بمحدودية قدرتها على مواجهة دولة إسرائيل التي هي صاحبة المبادرة في المشروع الاستيطاني. ولقد عبّر عن ذلك الرئيس كارتر الذي كان من أشد مناهضي ظاهرة الاستيطان، إذ كشف في أحد تصريحاته (3/3/1980) بهذا الشأن، أسباب معارضته، في المحافل الدولية، صيغ القرارات حادة اللهجة ضد إسرائيل والداعية إلى تفكيك المستوطنات، معتبراً أن مثل "هذه الدعوات [إلى تفكيك مستوطنات] غير ملائمة وغير عملية."

(This call for dismantling [settlements] was neither proper nor practical)[11]

ويمكن أن يعزى موقف كارتر بدرجة كبيرة إلى واقع وجود زعيم اليمين الأيديولوجي مناحيم بيغن على رأس حكومة إسرائيل في ذلك الوقت، إذ كان في وسع الرئيس الأميركي أن يتوقع رفض بيغن الانصياع إلى أمر تفكيك المستوطنات، حتى لو مورست عليه ضغوط قوية. كما كان في وسع الرئيس أن يتوقع أن تبقى مثل هذه القرارات "حبراً على ورق"، وأن ترفض حكومة بيغن تنفيذها في كافة الأحوال. وهنا يكمن خطر ضياع هيبة الولايات المتحدة  كقوة عظمى ومكانتها.

وفي مناسبة أخرى، أوضح كارتر أن الولايات المتحدة غير مضطرة إلى الانجرار إلى تصريحات متطرفة بشأن ظاهرة المستوطنات، أو إلى تأييد مشاريع قرارات متطرفة ضد إسرائيل، ولا سيما أن الولايات المتحدة تركن إلى التعهدات الصريحة التي قطعتها إسرائيل، سواء العلنية أو السرية، بأن المستوطنات لا تجسد توجهاً إسرائيلياً إلى ضم الأراضي المحتلة بصورة دائمة، وبأنها توافق على أن يتم تحديد خريطة الحدود من خلال المفاوضات والتسوية السياسية. ومن هنا، بذل كارتر جهداً ليوضح علناً في 23/8/1977، أن الولايات المتحدة لا تنوي الذهاب أبعد من مجرد الإعراب عن أسفها (open expression of our concern)، والاكتفاء بإدانة الإجراءات الإسرائيلية في المستوطنات.[12]

ويفهم من هذه الصيغة أنه لا ينبغي تكبير مشكلة المستوطنات بصفتها عقبة أمام تسوية إسرائيلية - فلسطينية، وخصوصاً أنه عندما يتوصل الطرفان إلى اتفاق بشأن خطوط الحدود بينهما، ستكون إسرائيل مستعدة للانسحاب من المستوطنات الموجودة خارج خط الحدود المتفق عليها. ولاحقاً، ولا سيما في المراحل الأولى من الحوار مع إدارة أوباما، استخدمت حكومة إسرائيل هذه الذريعة في سبيل التأكيد أنه لا ينبغي الاستجابة إلى الطلب الفلسطيني الرافض للمفاوضات مع إسرائيل في ظل استمرار الاستيطان.

 ولقد طرأ التغيير الجذري الأول إزاء مسألة المستوطنات في أثناء ولاية الرئيس ريغان، الذي استهل ولايته الأولى، في 2/2/1980، بإعلان عدم قبوله بالوصف الذي درج عليه المتحدثون باسم الإدارة، أي عدم شرعية المستوطنات (they’re not illegal). هكذا، قال ريغان إن المستوطنات "ليست غير شرعية"، وبحسب رأيه، ينبغي أن تكون الضفة الغربية مفتوحة أمام استيطان أبناء جميع الأديان السماوية، من يهود ومسلمين ونصارى. وفي الوقت ذاته، انتقد الطريقة التي يجري فيها الاستيطان، فاعتبرها استفزازية الطابع، ومنافية لروحية اتفاقيات السلام الموقعة في كامب ديفيد.[13]

وفي خطة ريغان للسلام في الشرق الأوسط التي أُعلنت في مطلع أيلول/سبتمبر 1982، برزت براعم التفهم الأميركي لعدم جدوى محاولات المنع المطلق للمشروع الاستيطاني. وهكذا، تتكلم الخطة أساساً عن الامتناع من توسيع مساحة أراضي المستوطنات (use of any additional land for the purpose of settlements)، أي عن الامتناع من إقامة مستوطنات جديدة ومن توسيع أراضي المستوطنات القائمة. ومغزى الكلام، غير المباشر، أنه يجوز مواصلة أعمال البناء ضمن المستوطنات القائمة. ولقد شكل هذا المبدأ أساساً لتفاهمات بشأن المستوطنات بين إدارة الرئيس بوش ورئيسي الحكومة، شارون ثم أولمرت. ومع ذلك، وربما بداعي إتمام الواجب، أوصت خطة ريغان إسرائيل بتجميد المستوطنات بغية خلق مناخ مؤات للمفاوضات، وتمكين الأطراف المتعددة من المشاركة فيها.[14]

وساد أيضاً في أوساط إدارة الرئيس بوش الابن شعور بالعجز إزاء ظاهرة تكاثر المستوطنات ، فقد صرّح وزير الخارجية كولن باول في 1/5/2002 في هذا الخصوص قائلاً "إن المستوطنات آخذة في التوسع والازدياد. وهي لن تختفي من الوجود"، لكنه لم يطرح أي مقترح بشأن كيفية وضع حد لها، واكتفى بالقول إنه "يجب فعل شيء ما بهذا الخصوص."

“Something has to be done about the problem of the settlements, the settlements continue to grow and continue to expand…It’s not going to go away.”[15]

ولا بد من التذكير بأن هذا الكلام قيل عندما كانت الانتفاضة الفلسطينية في أوجها، وتسدد ضرباتها داخل إسرائيل، ويبدو أنه كان للإدارة الاميركية أرضية مؤاتية للمطالبة بحزم بوقف بناء المستوطنات، التي صُورت أكثر من مرة بأنها المسبّب الرئيسي للعنف الفلسطيني. واعترف [باول] مجدداً بعد عام ونيف (في 21/9/2003)، بأن الولايات المتحدة لم تنجح في منع توسيع النشاط الاستيطاني بشكل مرضٍ لها.

“Settlement activity must stop. And it has not stopped to our satisfaction.” [16]

أمّا دانيال كورتزر، سفير الولايات المتحدة إلى إسرائيل في أثناء إدارة بوش، فلقد وصف بتعابير مبالغ فيها (في 29/5/2002) شعور الإدارة الأميركية بالعجز إزاء ظاهرة الاستيطان، معتبراً أن "الولايات المتحدة الأميركية عارضت المستوطنات على امتداد عدة أعوام، لكن أنتم (الإسرائيليين) واصلتم البناء هناك، ونحن لم نحرك ساكناً لوقف هذه الظاهرة. وإذا شاءت إسرائيل ذلك، تستطيع (من الناحية العسكرية) أن تتوسع إلى تخوم أرض الميعاد. لكن السؤال المطروح هو: هل تستطيع القيام بذلك من الوجهتين السياسية والأمنية؟"

“It is a fact that we have opposed the settlements for decades and you continue to build them and we have done nothing untoward to you [in response]. If Israel wants, it can even expand to the borders promised in the Bible. The question is whether it is able to do so from a security and political standpoint.”  [17]

واختار بعض ممثلي الإدارة أن يرفقوا مواقفهم من سياسة الاستيطان الإسرائيلية بتهديدات، على أن توضع موضع التنفيذ إذالم تتوقف هذه الظاهرة. ولقد جسّد الرئيس بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، هذا التوجه لدى الإدارة بطريقة لاذعة، ولا زلنا نذكر كيف أنهما اشترطا على إسرائيل إجراء تغيير جوهري في سياستها الاستيطانية من أجل تقديم ضمانات القروض، وغير ذلك من المساعدات إليها. وقد أوضح الرئيس في أحد خطاباته (في 3/3/1990) أن موقف الإدارة الأميركية معارض لبناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وأكد أنه ينوي تنفيذ مواقف إدارته بصرامة، وأنه سيراقب جيداً  كيف "أنهم" – يقصد إسرائيل- سوف ينفذون هذه المطالب.[18]

وكان لوزير الخارجية جيمس بيكر موقف حاد مناهض لبناء المستوطنات. ففي أحد تصريحاته (في 22/5/1991)، اشتكى من أنه عندما زار القدس، واجهته إعلانات عن إقامة مستوطنات جديدة، وفسّر هذا الأمر، بقدر كبير من الصواب، على أنه محاولة لإحراجه والإمعان في إذلاله. وقد  تخوف بيكر، وعن حق، من أن تغاضي الإدارة عن هذه الإعلانات قد يفسَّر بصورة شبه مؤكدة، كتعبير عن ضعف وتخوف الإدارة الأميركية من حصول مواجهة مع حكومة إسرائيل. ويجوز الافتراض أن عدم اعتراض هذه الإدارة كان سيقود [الحكومة الإسرائيلية] إلى تعزيز مشروع المستوطنات، الأمر الذي يسبب الأسى للإدارة الأميركية. لكن، في نهاية الأمر، وجد بيكر نفسه يشتكي من وضع يصعب عليه تغييره: "يتواصل النشاط الاستيطاني من دون هوادة، ولا بل تسارعت وتيرته."

“Settlement activity continue not unabated but at an advanced pace.” [19]

لقد جعل اشتداد العنف الفلسطيني، ولا سيما في إبان الانتفاضة الثانية، النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني موضع اهتمام العالم، حتى وقوع أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. فقد تركز اهتمام [الإدارة الأميركية آنذاك] على مسألة المستوطنات، وجاء في التقرير الذي أعده المبعوث [الأميركي الخاص إلى منطقة الشرق الأوسط] جورج ميتشيل (في 30/4/2001) لتقويم الأحداث التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة في سنة 2000، أن المستوطنات هي سبب رئيسي للعنف الفلسطيني، وطالب ميتشيل بتجميد مطلق للمستوطنات، ولو لدواعي "النمو الطبيعي". ولفت التقرير إلى أنه "سيكون من الصعب للغاية منع استمرار العنف الفلسطيني - الإسرائيلي، إلاّ إذا أوقفت الحكومة الإسرائيلية جميع عمليات بناء المستوطنات." ولا يكتفي التقرير بذلك، فهو يقرر بوضوح أن منظومة التعاون الأمني القائمة بين إسرائيل والولايات المتحدة لا يمكن أن تتماشى مع إمعان إسرائيل في سياسة الاستيطان:

“The kind of security cooperation desired by the GOI cannot for long co-exist with settlement activity.”  [20]

لكن، في عهد الإدارات الأميركية الأخيرة، وصولاً إلى بداية ولاية الرئيس أوباما، برز توجه معين لإظهار تفهم ما لظاهرة المستوطنات بحد ذاتها، من خلال محاولة تخفيف أبعادها، على ألا تخرج عن الإطار المتفق عليه بين إسرائيل والولايات المتحدة. وكان أبرز تعبير عن هذا التوجه، في عهد الرئيس كلينتون، عندما أوضح مساعد وزير الخارجية إدوارد جيريجيان، في 9/3/1993، أن الولايات المتحدة تتفهم الحاجة إلى نشاط "استيطاني" محدد، على قاعدة النمو الطبيعي والحاجات الأخرى:

“There is some allowance for—I wouldn’t use the word “expansion” but certainly some activity—construction activities in existing settlements. And that’s basically…in terms of natural growth and basic, immediate needs in those settlements. I want to get away from the word “expansion”per se…”                [21]

وبعد مرور نحو عشرة أعوام (في 12/4/2001)، وتحت إدارة الرئيس بوش الابن، أضفى جيريجيان مزيداً من الوضوح على مواقفه في هذه المسألة، وقرر أنه يجب ضم المستوطنات الكبرى في إطار واحد، بحيث يُطمئن المستوطنين لجهة بقائهم مستقبلاً ضمن حدود دولة إسرائيل في إطار الحل الدائم:

 “Some of the major settlements could be consolidated, and these settlers could    become more confident of their eventual status as part of Israel.”   [22]

وأدت أحداث 11 أيلول/سبتمبر - دخول الولايات المتحدة في معركة شرسة ودموية ضد التشدد الإسلامي في العراق وأفغانستان – إلى خلق أرضية متينة جداً لموقف أميركي من الاستيطان أكثر ملاءمة لإسرائيل. ففي عهد الرئيس بوش الابن، جرى صوغ تفاهمات تفصيلية مع حكومة شارون بشأن البناء في المستوطنات، نصت على ما يلي: "لن يتم توسيع المستوطنات، ولن يُسمح بالبناء فيها إلاّ ضمن المنطقة المحددة لخطوط البناء القائمة." وقطعت إسرائيل أيضاً تعهدات بعدم إنشاء مستوطنات جديدة، وبعدم مصادرة أراضي الفلسطينيين لغايات البناء.[23]

ولقد أعطى الرئيس بوش تعبيراً واضحاً عن التفاهمات مع شارون عندما أعلن -  في مؤتمر صحافي عقد في 4/4/2004 في إثر اللقاء بينهما - أنه في ضوء الحقائق الناشئة على الأرض، ومن ضمنها وجود مستوطنات وتجمعات سكانية كبيرة، من غير المنطقي التوقع أن تتطابق الحدود الدائمة لإسرائيل مع خطوط الهدنة لسنة 1949:

“In light of the new realities on the ground, including already existing major Israeli populations centers, it is unrealistic to expect that the outcome of final negotiations will be a full and complete return to the armistice lines of 1949.”                       

["على ضوء الحقائق الجديدة على الأرض، ومن ضمنها المراكز السكانية الإسرائيلية الكبرى القائمة منذ الآن، علينا ألاّ نتوقع أن تكون نتيجة مفاوضات الوضع النهائي العودة الكاملة التامة إلى خطوط الهدنة لسنة 1949."]

ولقد أكد الرئيس بوش هذا الأمر في رسالة موجهة إلى شارون في 14 نيسان/أبريل 2004، والتي أقرها الكونغرس بأغلبية كبيرة، وتتضمن اعترافاً صريحاً بحق إسرائيل في مواصلة المشروع الاستيطاني وفق إطار متفق عليه، ومن خلال افتراض أن المناطق المتفق عليها بين إسرائيل والولايات المتحدة ستبقى في كافة الأحوال تحت سيطرتها، وأيضاً في إطار التسوية الدائمة مع الفلسطينيين.[24]

ولقد تجلت أعلى درجات معارضة المشروع الاستيطاني لدى الرئيس أوباما في مستهل ولايته الأولى،

وجرى التعبير عنها في بعض جولات المباحثات بهذا الشأن مع إسرائيل، التي أخذت أحياناً طابع المواجهات الحادة. حدثت المواجهة الأولى بعدما أعلن الرئيس أوباما في خطاب القاهرة في حزيران/يونيو 2009، أن الولايات المتحدة لا تقبل بمشروعية استمرار المستوطنات، وأنها تطالب بالوقف التام [للبناء في] للمستوطنات في الضفة الغربية:

“The United States does not accept the legitimacy of continued Israeli settlements. This construction violates previous agreements and undermines efforts to achieve peace. It is time for these settlements to stop.”[25]  

["الولايات المتحدة لا تقبل مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية. إن عمليات البناء هذه تنتهك الاتفاقات السابقة وتقوّض الجهود المبذولة لتحقيق السلام. لقد آن الأوان لكي تتوقف هذه المستوطنات عن ذلك."].

ورفضت حكومة نتنياهو الاستجابة لهذا الطلب، وبدأ حوار مكثف بين الدولتين، بواسطة المبعوث الخاص جورج ميتشيل، أفضى في نهاية الأمر إلى صدور قرار لا سابق له من حيث نطاقه عن الحكومة الإسرائيلية قررت فيه تجميد الاستيطان بشكل جزئي لمدة عشرة أشهر.

وحدثت المواجهة الثانية بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل في آذار/مارس 2010. فقد تصدّر الزيارة طلب الإدارة الأميركية من إسرائيل وقف عمليات البناء في القدس، لكن حكومة نتنياهو رفضت الاستجابة لهذا المطلب بحذافيره، وأبدت استعدادها فقط لأن تبطئ فعلياً عملية البناء في القدس. أمّا المواجهة الثالثة فقد حدثت بعد انتهاء مدة التجميد، بعدما طالبت إدارة أوباما بمواصلة التجميد من دون مقابل، وعارضت حكومة نتنياهو هذا الأمر أيضاً.

ومنذ انتهاء مدة التجميد، توسعت حركة البناء في الضفة الغربية واكتسبت زخماً. وفي كل مرة، وبشكل رئيسي عقب إعطاء تراخيص البناء، يخرج المتحدثون باسم الإدارة بتصريحات تشدد على حقيقة أن هذه الظاهرة تمس جهود السلام.

 

خلاصة

منذ حرب 1967، أبدت جميع الإدارات الأميركية معارضتها لظاهرة الاستيطان في الأراضي المحتلة، بدرجات متفاوتة من الحدة، وسيقت حجج سياسية وقانونية وأخلاقية لتبرير هذه المعارضة. وفي معظم الإدارات، كانت المعارضة كلامية، ولم يرافقها توجيه تهديد فعلي إلى حكومة إسرائيل، يوضع موضع التنفيذ في حال لم تستجب إلى مطالب الإدارة بهذا الشأن. وشذّت عن هذه القاعدة إدارة الرئيس بوش الأب، عندما أوضحت في سنة 1992، أنها ستمتنع من تقديم ضمانات القروض لإسرائيل، إذا لم تجمد البناء في الأراضي المحتلة.

اليوم، وفي ضوء التجربة التاريخية على امتداد أكثر من أربعين عاماً، يمكن الجزم بأن المعارضة الواسعة لمشروع المستوطنات في المجتمع الدولي عامة، وفي الإدارة الأميركية خاصة، وداخل أوساط عريضة في دولة إسرائيل، لم تفلح في إيقافه. ويعتقد كثيرون - وأيضاً في وسط أشرس مناهضي هذا المشروع، وحتى شخصيات بارزة في القيادة الفلسطينية – أن مشروع الاستيطان نجح في خلق واقع جغرافي وديموغرافي لا رجوع عنه، تقريباً، في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يؤثر في طيف واسع من القضايا الشرق أوسطية، وبشكل رئيسي، في مواصلة مسار السلام في المنطقة.

تعتمد السياسة الخارجية الأميركية على التكامل بين المقاربة القيمية - الأخلاقية والأيديولوجية والمقاربة العملية - البراغماتية. وتثبت التجربة التاريخية أنه في عدة حالات، وعندما أدركت الولايات المتحدة أن معارضتها لمسارات معينة هي عديمة الجدوى، قامت بتعديل سياستها لتتلائم والواقع القائم. فلقد أبدت الولايات المتحدة معارضة قوية لنقل مكاتب الحكومة والكنيست إلى القدس بعد حرب 1948، لكن، في النهاية، تقبلت الأمر. كما أنها عارضت بحزم تطوير الخيار النووي في إسرائيل، لكن، في النهاية، توصلت معها إلى اتفاقية تفاهم بشأن هذه المسألة الحساسة. وبقيت أميركا أعواماً كثيرة ترفض الاعتراف بالصين، لكنها، في النهاية، اضطُرت إلى تغيير موقفها بعدما تلقت صفعة قوية من الواقع الجديد.

ومن هنا، وبالنسبة إلى ظاهرة المستوطنات، يمكن حمل الإدارة الأميركية على الاعتراف بمحدودية قدرتها على التأثير في هذه المسألة تأثيراً ملحوظاً. والنتيجة المترتبة على إدراك هذه المحدودية ستكون أن المصلحة القومية للولايات المتحدة تحتّم عليها التوصل الى اتفاقية تفاهم مع إسرائيل بشأن المستوطنات على أساس الإطار المبيَّن أعلاه. فإصرار الولايات المتحدة على موقفها المعهود، الذي يتسم بالمعارضة الجارفة لمشروع المستوطنات، من شأنه أن يلحق ضرراً بالغاً بمكانتها وبعلاقاتها مع إسرائيل، وقد لا يؤدي إلى إنجاز يخدم مصالحها القومية.

 

 

[1]  انظر تصريحات مسؤولي الإدارة الأميركية عن المستوطنات الإسرائيلية: Statements from U.S. Government Officials Concerning Israeli Settlements, http://www.cmep.org/content/us-statements-israeli-settlements_short#Reagan.                                                                                                                

[2]  استخدمت الإدارة الأميركية تعابير متعددة في هذا الشأن، وعلى سبيل المثال: obstacle to peace, counterproductive, not helpful.

انظر في هذا الخصوص: Donald Neff, “Settlements in U.S. Policy”, Journal of Palestine Studies, Vol. 23, No. 3 (Spring, 1994), pp. 53-69.

[3]  Statements on American Policy toward Settlements by U.S. Government Officials- 1968-2009, http://www.fmep.org/analysis/israeli-settlements-in-the-occupied-territories.                                                                                                          

     (وفيما يلي:  Statements on American Policy)

[4]  انظر: Daniel Kurtzer, Ha’aretz, May 29, 2002, Churches for Middle East Peace Website, http://www.cmep.org/content/us-statements-israeli-settlements_short#Bush.                                

[5]  انظر: Michael Doran, Senior Director for Near East and North African Affairs,         National Security Council, “Ask the White House,” May 24, 2006, http://2001-2009.state.gov/p/nea/rls/rm/2006/66736.htm                                                        

[6]  Statements on American Policy.

[7]   إن مقررات قمة الخرطوم لم ترفض حقاً الخيار السياسي للتسوية، لكنها قررت أن تطبق الوسائل السياسية ضمن إطار المبادىء التالية: لا للسلام مع إسرائيل، لا للاعتراف بإسرائيل، لا للتفاوض مع إسرائيل. انظر: بوعاز فنتيك وزاكي شالوم، "حرب يوم الغفران، الحرب التي كان بالإمكان تفاديها"، دار نشر رسلينغ، تل أبيب، 2012، ص. 25-26.

[8]   Statements on American Policy.

[9]   Ibid.

[10]  Ibid.

[11]  Ibid.   

[12]   Ibid.

[13]  Ibid.

[14]  انظر: "خطة ربغان" Reagan Plan))، أيلول/سبتمبر، 1982، في المصدر التالي:  Yehuda Lukas, ed., Documents on the Israeli-Palestinian Conflict, 1967-1983. Cambridge,  Cambridge University Press, 1984.                                                                

[15] انظر تصريح وزير الخارجية كولن باول، في 1/5/2002، المنشور على الموقع التابع لمنظمة السلام والعدالة، Coalition for Peace and Justice: http://www.peace-with-justice.org/letters/041003sizer.html

[16] انظر تصريح وزير الخارجية كولن باول، في 21/9/2003، المنشور على الموقع التابع لمنظمة الكنائس في سبيل السلام في الشرق الأوسط: Churches for Middle East Peace, http://www.cmep.org/content/us-statements-israeli-settlements_short#Bush...

[17] انظر تصريح السفير الأميركي دانيال كورتزر: Daniel Kurtzer, U.S. Ambassador to Israel -“Ha’aretz”, May 29, 2002, Churches for Middle East Peace:                       http://www.cmep.org/content/us-statements-israeli-settlements_short#Bush...

[18]  Statements on American Policy.

[20]  انظر تقرير جورج ميتشيل في 30/4/2001: The Mitchell Report, April 30,2001: http://mideatweb.org/mitchell_report.htm                                                                                         

[21]  Statements on American Policy.

[22]  Ibid. 

[23]  انظر خطاب أريئيل شارون في مؤتمر هرتسليا، في 18/12/2003، المنشور على موقع مكتب رئيس الحكومة: http://www.mfa.gov.il/MFA/Government/Speeches+by+Israeli+leaders/2003/Address+by+PM+Ariel+Sharon+at+the+Fourth+Herzliya.htm

[24]  انظر تعليق الرئيس بوش خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون، في 14/4/2004، المنشور على موقع البيت الأبيض: http://www.whitehouse.gov/news/releases/2004/04/20040414-4.html September 07, 2006.      

[25]  انظر موقع مكتب الناطق باسم اللبيت الأبيض: The White House, Office of the Press Secretary (Cairo, Egypt) June 4, 2009, Remarks by the President on a New Beginning Cairo University, Cairo, Egypt: http://www.whitehouse.gov/the-press-office/remarks-president-cairo-university-6-04-09                                                                                

 

 

المزيد ضمن العدد 1558