· هذا الأسبوع انتهى فصل مهم من فصول التاريخ العراقي مع خروج الجندي الأميركي الأخير من العراق. ففي إثر الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، نشرت الولايات المتحدة نحو 150 ألف جندي أميركي، وقد تراجع هذا العدد خلال الأشهر الأخيرة إلى 45 ألف جندي، في حين سيبقى نحو 10 آلاف مدني أميركي يعملون في العراق كمستشارين في مجالي الأمن والاقتصاد. كذلك ستبقي الولايات المتحدة في دول الخليج عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين لمساعدة العراق في حالات الطوراىء، ومن أجل لجم إيران، وتعزيز أمن دول الخليج القلقة من سعي طهران لامتلاك السلاح النووي.
· بدأ قرار الانسحاب من العراق بالتبلور في سنة 2006، وذلك في ظل تصاعد الضغط الداخلي في الولايات المتحدة من أجل إنهاء القضية. بيد أن الإدارة الأميركية ترددت في اتخاذ قرار الخروج من العراق خوفاً من أن يظهر ذلك كهزيمة لها، وخوفاً أيضاً على الإنجازات التي حققتها، فقررت آنذاك أنها لن تسحب قواتها قبل أن توجه ضربة قوية إلى العناصر الإرهابية في العراق، والتي تتألف من الميليشيات الطائفية المسلحة وتنظيم القاعدة. في الواقع، شنت القوات الأميركية سلسلة هجمات ناجحة ضد هذه التنظيمات، واستطاعت أن تحد بصورة كبيرة من العمليات الإرهابية. وبهذه الطريقة استطاعت الإدارة الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر توقيع اتفاق مع الحكومة العراقية وضعت فيه أسس العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، وحددت موعد الانسحاب من العراق في نهاية سنة 2011.
· كيف سيُنظر إلى احتلال العراق تاريخياً؟ الجواب معقد. ففي الجانب الإيجابي، هناك السقوط السريع لنظام صدام حسين، والقدرة العسكرية المذهلة على التحرك عن بعد التي أظهرتها الولايات المتحدة. كذلك لن يكون في استطاعة العراق طوال أعوام تهديد الدول الأخرى، إذ هو لا يملك حتى القدرة العسكرية للدفاع عن نفسه. وقد تمكنت الولايات المتحدة من إنشاء البنية التحتية للمؤسسات الديمقراطية العراقية، فشارك العراقيون لأول مرة في الانتخابات، كما أعادت بناء قوات الأمن العراقية .
· لكن في مواجهة هذه الإيجابيات هناك عدد لا يستهان به من السلبيات. فقد دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً، فهناك أكثر من 4500 جندي أميركي قُتلوا في العراق، وتقدر نفقات الحرب بنحو 900 مليار دولار. كذلك دفع العراق ثمناً هائلاً، فهناك أكثر من 100 ألف قتيل عراقي، ونحو أربعة ملايين ونصف المليون لاجىء موزعين على العراق وسورية والأردن، وقد تضرر الاقتصاد العراقي بصورة كبيرة. وعلى الرغم من أن مستوى العنف تراجع عما كان عليه في سنة 2007، وتراجع عدد القتلى من 34,500 قتيل إلى 2500 قتيل سنة 2010، بيد أن حجم العنف ما زال كبيراً، وفي تقدير الأميركيين أنه سيزداد بعد انسحابهم.
· لقد تركت الولايات المتحدة وراءها مشكلتين خطيرتين، هما: الاقتتال الطائفي، وصعود نفوذ إيران. فالعراق اليوم منقسم إلى ثلاث طوائف أساسية، هي: الشيعة الذين تحولوا إلى العنصر المسيطر؛ الأكراد الذين أقاموا حكماً ذاتياً؛ السنّة الذين يقاتلون للدفاع عن موقعهم. ولكل طائفة ميليشيا مسلحة تابعة لها، وهي تتقاتل فيما بينها، الأمر الذي جعل العراق على حافة الحرب الأهلية.
· أمّا إيران فقد استغلت فرصة عدم قدرة العراق على كبحها في منطقة الخليج، ونجحت في التغلغل عميقاً في الأجهزة العراقية وأقامت علاقات مع أغلبية الزعامات والتنظيمات الشيعية بواسطة المال والسلاح ورجال الدين وضباط "الحرس الثوري". وقد تحولت إيران إلى العنصر المهم في العراق بعد الولايات المتحدة، وفي أعقاب الانسحاب الأميركي ستصبح هي العنصر المهيمن.
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الوجه الإيجابي لما حدث يتجلى في غياب العراق لأعوام طويلة كلاعب عسكري في المنطقة. إلاّ إن صعود النفوذ الإيراني، واحتمال تحول العراق إلى دولة مصدرة للإرهاب، والضرر الذي سيلحق بصدقية الولايات المتحدة، كلها عوامل لا تصب في مصلحة إسرائيل.