· في الخمسينيات من القرن الماضي، شجعت إدارة أيزنهاور المساعي الإسرائيلية لإنشاء "حلف الأطراف" الذي ضمّ تركيا وإيران وإثيوبيا. وانطلاقاً من هذا الإطار استطاعت حكومات بن - غوريون وأشكول توسيع دائرة النفوذ الإسرائيلي في آسيا وإفريقيا بمباركة الولايات المتحدة. وحدث ذلك لأن إسرائيل كانت تتحرك بصفتها الذراع الطويلة لواشنطن من أجل أن تدفع قدماً المصالح الغربية في الأماكن التي لم تكن الإدارات الأميركية قادرة على العمل فيها مباشرة وبصورة علنية.
· هناك انطباع اليوم فيما يتعلق بالشأن السوري بأنه يوجد تقاطع، موقت ومحدود، بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل. فمن المعلوم أنه من وجهة نظر البيت الأبيض، فإن التدخل العسكري في المذبحة الدائرة في سورية ليس خياراً واقعياً، وهذا لا يعود فقط إلى الآثار المؤلمة التي ما زالت في وعي باراك أوباما جرّاء حربَي فييتنام وأفغانستان، بل إلى رفض أوباما أيضاً أن يضع في سلّم أولوياته أي عملية تورّط برّي باهظة الثمن. لكن على الرغم من ذلك، فإن إيمان الرئيس أوباما بالدفاع عن القيم الإنسانية العالمية، يجعله غير قادر على أن يقف موقفاً لا مبالياً أمام الموت والدمار اللذين تزرعهما قوات بشار الأسد.
· في ظل هذه الإشكالية، وإزاء عجز الغرب حتى الآن عن معالجة الأزمة السورية، يمكننا أن نرى في قصف إسرائيل منشآت وأنظمة سلاح موجودة فوق الأراضي السورية، بحسب التقارير الأجنبية، بديلاً - محدوداً وظرفياً - من خطوات استراتيجية لواشنطن ولندن وباريس تتردد في اتخاذها، وقد اتضح أن الوجود الجوي لإسرائيل في الساحة هو التعبير العملي الأكثر أهمية في مواجهة النظام المجرم في دمشق. ويمكن القول إن دخول إسرائيل المتكرر إلى ساحة القتال يتلاءم تماماً مع المصالح الأميركية والأوروبية (وقد يخفف قليلاً من أزمة الضمير التي تعانيها الديمقراطيات الأوروبية)، مع الأخذ في الاعتبار ألاّ يؤدي هذا إلى تصعيد لعنف واسع النطاق.
· ومما لا شك فيه، أن احتمال تحوّل نموذج العملية الجوية الإسرائيلية إلى مثال تحتذيه قوات شمال الأطلسي في محاولتها ترسيم حدود المنطقة، ومن شأنه أن يضيف نقاطاً جديدة لإسرائيل بصفتها قوة استراتيجية بارزة استطاعت تخطّي حاجز الخوف والشلل، ووجدت مجالاً للعمل الفاعل، وفي الوقت نفسه المتقن والمحدود بأهداف معينة.
· علاوة على الشأنين السوري واللبناني المباشرين، فإن الهجمات الإسرائيلية، في حال صحّت التقارير الأجنبية بشأنها، هي بمثابة رسالة ردع واضحة موجهة إلى طهران. وهي رسالة تخدم مصالح الغرب، وتشكل مؤشراً أقوى بكثير من التهديدات اللفظية، وحتى من العقوبات الاقتصادية القاسية.
· في سنة 1958، وبعد الثورة في العراق وفي مواجهة التهديد المباشر الذي تعرّض له حكم الملك حسين في الأردن، فتحت إسرائيل مجالها الجوي وسمحت للولايات المتحدة وبريطانيا، على الرغم من المخاطر، بنقل قواتهما ومواد خام استراتيجية حيوية. وقد شكل هذا مؤشراً أساسياً إلى تحوّل إسرائيل إلى ذخر استراتيجي مهم بالنسبة إلى البيت الأبيض.
· واليوم، وفي ظل تحسّن مستوى التعاون الاستراتيجي مع واشنطن، يمكننا أن نرى في أحداث الأيام الأخيرة تعبيراً جديداً عن مساهمة إسرائيل في دفع المصالح والأهداف الأميركية في المنطقة قدماً، على أملٍ، طبعاً، بأن تحقق هذه الاستراتيجيا أهدافها في مجالَي الردع والعقاب.