مَن سيحكم غزة؟ هذه هي الخيارات، وكلها سيئة!
تاريخ المقال
المصدر
- لعل العبارة الأكثر تداولاً في الخطاب الإسرائيلي منذ "مجزرة" 7 تشرين الأول/أكتوبر هي "تقويض حماس". إن وضع مثل هذا الهدف - بافتراض أنه ممكن عسكرياً - يستوجب تحليلاً استراتيجياً معمقاً، ووضوحاً متعلقاً بالسيناريو الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه، وبالأساس يفرض مقاربة حكيمة، يبدو أنها لم تكن موجودة قبل هجمة "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
- تحكم "حماس" القطاع، "بأسلوب ديكتاتوري"، منذ سنة 2007، وفي الواقع، حُكمها راسخ بعمق على جميع مستويات المجتمع الغزّي منذ السبيعينات، حتى حين كانت "حماس" في طور نشأتها المبكرة المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين. إن توجيه ضربة قاضية إلى هذا التنظيم يعني التالي: تحييد جميع أطرها القيادية، وتصفية واسعة النطاق لكبار مسؤوليها، والتدمير المادي لمؤسساتها، ولا سيما مؤسساتها المدنية ("الدعوة") التي تشكل وسائل تواصُلها مع الجمهور، وحرمانها من مصادرها الاقتصادية، وتنفيذ الاعتقالات الجماعية لعشرات الآلاف من نشطائها.
- لكن بعكس ما جرى لتنظيم داعش الذي هزمه التحالف الدولي، فإن الحرب لن تكون قادرة على إنهاء فكرة "حماس"، المتجذرة عميقاً في الوعي الجمعي الفلسطيني. إن الهدف الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه، يختلف تماماً عن شعار "القضاء على النازية" الذي مرت به ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يشبه، إلى حد كبير، عملية "القضاء على البعث" التي حاول الأميركيون تطبيقها في العراق، بعد إسقاط نظام صدام حسين، وهي عملية لم تحظَ بالكثير من الترحيب.
- إلى جانب خيبة الأمل من كون فكرة "حماس" غير قابلة للاجتثاث بصورة سهلة وسريعة، علينا الاعتراف أيضاً بأن البدائل المطروحة قليلة وضعيفة، فبعض هذه البدائل سيئ، أما البعض الآخر، فهو أسوأ! وكلٌّ من هذه البدائل سيظل يولّد التحديات بالنسبة إلى إسرائيل، وهذه التحديات، حتى لو كانت أقل من التحدي الراهن، إلا أنها ستكون مترافقة دائماً مع انعدام يقين عميق بشأن المستقبل.
- لنبدأ بخيارين سيئين للغاية، يُنصح بتلافيهما. يتمثل الأول في إعادة احتلال القطاع، وفرض سيطرة إسرائيلية مستمرة عليه، وهو سيناريو تحفّظَ الرئيس جو بايدن عنه، علناً، قبل بضعة أيام. مثل هذا الخيار سيكبد إسرائيل ثمناً باهظاً، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، قد يجعلها تغرق في نموذج محلي يشبه نموذجيْ العراق وأفغانستان. أمّا البديل التالي، فهو تقويض حُكم "حماس" والخروج السريع من القطاع، بصورة تخلق فراغاً سلطوياً يستقطب الفوضى وعناصر الجهاد من جميع أرجاء الشرق الأوسط والعالم، وهؤلاء سيحاولون تحويل غزة إلى باحة مواجهة مع إسرائيل.
- هناك خياران آخران، من غير الواضح معقولية تطبيقهما، من المحتمل أن يكونا أقل سوءاً بالنسبة إلى إسرائيل. يتمثل الخيار الأول في بذل الجهود لإعادة بسط سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع. يتطلب مثل هذا الخيار، في المرحلة الأولى، تخلّي إسرائيل عن تصوُّرها السخيف الذي يفترض أن السلطة هي عدوّ أسوأ من "حماس"، لكن من غير الواضح أصلاً أن تكون السلطة، التي بالكاد تسيطر على الضفة الغربية، معنية بتولّي مهمة شديدة التعقيد إلى هذا الحد. حتى لو كان أبو مازن مستعداً لتولّي هذه المهمة تحت حراب الجيش الإسرائيلي، فليس من الواضح مدى قدرته على تحقيق النجاح في تنفيذها.
- يتمثل البديل الآخر في خلق منظومة حُكم سياسية تعتمد على جهات محلية في القطاع (رؤساء البلديات، والعشائر، والشخصيات العامة البارزة)، بمشاركة مسؤولي السلطة الفلسطينية، وبدعم خارجي واسع النطاق، وخصوصاً من الجانب المصري. إن معقولية مثل هذا الخيار أيضاً غير واضحة، بعد سنوات طويلة على قيام "حماس" "بقمع أيّ قوة جماهيرية أو سياسية شكلت تهديداً لها"، إلى جانب احتمالات محاولات إفشال مثل هذه المنظومة، في حال بدأت بالتشكل. إن كلّ سيناريو من هذه السيناريوهات يستوجب خلق نظام رقابة خاص على الخط الحدودي بين مصر والقطاع (محور صلاح الدين)، بما يشمل معبر رفح، الذي يشكل شريان تهريب استراتيجياً بالنسبة إلى "حماس".
- إن النقاش بشأن "اليوم التالي لإسقاط حماس"، بما يشمل التسوية والنظام الذي سيطبَّق على الحدود المصرية الغزّية، يستوجب مناقشة معمقة، ومخططات منظمة، حتى قبل إجراء المناورة البرية والشروع في محاولة تقويض حُكم "حماس". لن يكون من الممكن الحديث عن تغيير عميق في قطاع غزة، إلّا بعد مرور وقت طويل، وسيكون في قلب هذا الحديث رفع منسوب الوعي، بل إثارة الغضب الشعبي ضد فكرة "حماس"، وضد الكارثة التي أسقطتها على رؤوس الغزيين، وهو صوت لا نسمعه بالمطلق في هذه الأيام.
- إن مثل هذا التغيير متأصل على صعيد الوعي، ولن يحدث إلّا بعد ضمان حدوث التحولات التي ستصيب مراكز خلق الوعي الجمعي، وخصوصاً في الأجهزة التعليمية، والدينية، والإعلامية، والتي ظلت تزرع على مدار وقت طويل سردية أحادية الجانب، ومنظومة أخلاقية غير متسامحة تجاه "الآخر"، وتقدم في معظمها، تبريرات لأعمال العنف، ولا تشجع على النقد الذاتي، إلى جانب أنها لا تعكس الاستعداد للاعتراف بإسرائيل.