"حماس" قتلت حلّ الدولتين
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- منذ "مذبحة" السابع من تشرين الأول/أكتوبر، جمع رئيس الولايات المتحدة جو بايدن بين الدعم المثير للإعجاب لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وبين الدعوة إلى العودة إلى حل الدولتين، بعد انقشاع غبار المعارك. لقد أبدت بضع حكومات تأييدها لهذا الحل في الماضي، بل إنها قدمت مقترحات سلام درامية بهذه الروحية. وبموجب هذه المقترحات، كان يمكن للفلسطينيين أن يحظوا بدولة مستقلة تبسط نفوذها على أغلبية مناطق الضفة وقطاع غزة، وضمان عودة اللاجئين بصورة غير محدودة إلى أراضيها، وتقسيم القدس، وضمان وجود عاصمة في الشق الشرقي منها. إن السلطة الفلسطينية، التي تدعم حل الدولتين، ظاهرياً، رفضت هذه المقترحات، ولم تتقدم بأي مقترحات سلمية. أما حركة "حماس"، فهي ترفض أي تسوية.
- لقد كان حل الدولتين على حافة الموت السريري، حتى قبل نشوب الحرب الراهنة. إذ خلقت سياسة الاستيطان، قصداً، حالة تجعل تحقيق هذا الحل مستحيلاً، بالمطلق تقريباً، وقوضت هذه السياسات ثقة الفلسطينيين بصدق النيات الإسرائيلية بشأن التوصل إلى سلام. أما رفض الفلسطينيين للمقترحات، والتهديدات الدموية التي خلقتها الانتفاضة الثانية، فقد ضربت معسكر السلام الإسرائيلي ضربة قاصمة، لم يستفق منها حتى اليوم، وهو ما أدّى إلى صعود اليمين.
- تحول حل الدولتين، بمرور السنوات، إلى ما يشبه الكذبة الدولية الدبلوماسية المتفق عليها. فبالنسبة إلى الزعماء الغربيين، والأميركيين بصورة خاصة، شكّل هذا الحل، كما كان دائماً، غطاء لمواصلة دعم إسرائيل، على الرغم من السياسات الاستيطانية، وعلى الرغم أيضاً من أن قلة من هؤلاء الزعماء كانت تؤمن بفرص تحقيق السلام. أما الدول العربية، فقد وجدت في هذا الحل وسيلة من أجل تحسين علاقاتها بإسرائيل بصورة مريحة، في ظل عدم تحقيق تقدُّم في المسار الفلسطيني.
- والحرب الراهنة يمكن أن تكون المسمار الأخير في نعش حل الدولتين. وباعتبار حل الدولتين هو الوحيد الذي يمكنه ضمان أغلبية الطموحات الوطنية للطرفين، فإن موت هذا الحل ستكون له عواقب مصيرية. ومع ذلك، يمكن للأزمات أن تشكّل نقطة انطلاق استراتيجية في بعض الأحيان. من السهل، على الورق، ترسيم مخطط دبلوماسي لتحويل الأحداث الأخيرة إلى أساس لإعادة إطلاق حل الدولتين، وإنقاذ عملية التطبيع مع السعودية. لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. لنفترض أن إسرائيل ستنجح في إسقاط حركة "حماس" عسكرياً، إلى جانب إسقاطها كسلطة حاكمة في قطاع غزة، فسيكون هناك حاجة إلى طرف آخر يتولى مقاليد الحكم في قطاع غزة. المرشح الطبيعي هنا هو السلطة الفلسطينية، على الرغم من أن هذه السلطة غير قادرة، عملياً، على السيطرة حتى على الضفة الغربية، وهذا ما يضع قدرة السلطة الفلسطينية على الاضطلاع بهذه المهمة موضع شك.
- هذا، فضلاً عن أن السلطة الفلسطينية أعلنت فعلاً أنها لن تقبل إدارة قطاع غزة، إلا إذا كانت هذه المسألة في إطار حل الدولتين. وبذلك، هي تضع شرطاً لا يمكن للحكومة الإسرائيلية الراهنة قبوله. ومن المؤسف أن الأمر يتطلب انتظار قدوم حكومة أكثر مسؤولية واعتدالاً لتحقيق الأمر.
- عملياً، المعضلة أعمق كثيراً من هذا. إذ لنفترض أن السلطة، أو أي جهة أُخرى، نجحت في تولّي مقاليد الحكم في قطاع غزة. سيكون هناك حاجة، عندئذ، إلى قوة متعددة الجنسيات لتضمن بقاء هذه السلطة، في ظل جهود حركة "حماس" وتنظيمات أُخرى لتقويضها. لا بد من أن هذه القوة ستُشكَّل من جيوش عربية لديها علاقات سلمية مع إسرائيل، ودول غربية ودول أُخرى مقبولة من كلٍّ من إسرائيل والفلسطينيين.
- مثل هذه المهمة لا يناسب قوة دولية لا أنياب لها، ولا مخالب، إذ يتوجب على هذه القوة أن تثبت قدرتها واستعدادها الحقيقيَين للقتال من أجل حماية نفسها، لضمان بقاء السلطة الجديدة في قطاع غزة، ومن أجل الحؤول دون إطلاق حملات "إرهابية" جديدة ضد إسرائيل. أتحدث هنا عن قوة هائلة وجيدة التسليح. ينبغي على المرء أن يكون شديد التفاؤل ليصدق أن دولاً كثيرة، هذا إن وجدت دول توافق على هذا، ستتطوع من أجل إرسال جنودها للمشاركة في هذه المهمة الشديدة الخطورة والتعقيد.
- في أعقاب الحرب، سيتعين على اليمين واليسار في إسرائيل إعادة ترسيم مسارَيهما. ومع ذلك، فمن المرجّح أن يتوصل التياران إلى استنتاج واحد مشترك على الأقل: إن الحد الأدنى من المطالب الإسرائيلية، في أي تسوية سلمية، لم يعد قابلاً للتحقق، هذا الحد الأدنى هو: الضمانات الأمنية الصارمة.
- يتمثل البديل العملاني الوحيد لضمان التقدم، سياسياً، في المستقبل المنظور، في مثل هذه الظروف، في فكرة الانفصال المدني. ما أقصده هنا هو وقف الاستيطان في أجزاء من الضفة الغربية لا ترغب حكومة وسط في حُكمها، بعد توصُّلها إلى معاهدة سلمية، والحديث هنا يدور، على ما يبدو، حول أكثر من 90% من أراضي الضفة الغربية، مع إعادة المستوطنين بصورة تدريجية إلى ما وراء الخط الأخضر. وفي موازاة ذلك، مواصلة نشر قوات الجيش الإسرائيلي في أرجاء الضفة الغربية بهدف حفظ الأمن، بصورة غير محدودة زمنياً. وبذا، يتم ضمان الصبغة اليهودية والديمقراطية لـ "دولة إسرائيل"، مع ضمان أمنها أيضاً. مثل هذا التوجه أيضاً يضمن الحفاظ على إمكان التوصل إلى حل مستقبلي مستند إلى رؤية دولتين لشعبين، هذا في حال تهيأت الظروف لذلك.
- يتعين على الفلسطينيين والمجتمع الدولي الإدراك أن الفلسطينيين لن يحصلوا على استقلال كامل، على الأقل على مدار سنوات طويلة، وأن الحل العملي يتمثل في الحكم الذاتي الطويل الأمد. هناك ثمن لمئة عام من رفض التوصل إلى تسويات أياً كانت، وهناك ثمن لممارسة "الإرهاب" بلا توقف. وعملياً، تمكنت حركة "حماس" من قتل إسرائيليين كثر، لكنها تمكنت أيضاً من قتل الحلم الفلسطيني بدولة مستقلة.