الإسناد الشعبي الواسع للحرب، وحدود هذا الإسناد
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • خلال الأسبوع الرابع من المناورة البرية التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، برز التأييد الشعبي الواسع للتحرك العسكري من الجمهور الإسرائيلي. وإلى جانب التضامن والوقوف خلف العلم الوطني الإسرائيلي، يسود توافُق كبير من الجمهور والإعلام المؤسس على الأهداف التي أعلنتها دوائر صُنع القرار الإسرائيلي للحرب. ما سبق، يستند إلى شعور واسع بالهلع في مواجهة التهديد العميق، والتوافق على أن الحرب الجارية لا مفر منها، وهي حرب مبرَّرة، دفاعاً عن الوطن والمواطنين، في مواجهة "عدو متوحش، لا إنساني، يجب أن يُفنى". بناءً على هذا كله، يستند الدعم والتماهي العميقَين مع الجيش الإسرائيلي، ودعمه. إن قيمة مثل هذا الدعم الشعبي مهمة للجهد الحربي في مواجهة حركة "حماس".
  • يبقى السؤال هنا: إلى أي مدى سيتواصل دعم نشاط الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، بصورته الحالية، لفترة طويلة، أي طالما تطلّب التحرك العسكري ذلك، وما هي العوامل التي من شأنها زعزعة هذا الإسناد، أو تغيير سِماته. إن الإجابة عن هذه المسألة مهمة منذ الآن، ذلك بأن بعض الأسئلة المندرجة تحتها، يمكن توفير حلول لها، بحيث يستمر الدعم خلال الحملة العسكرية، ويستمر تأثيره الضروري في نتائج الحرب.

هناك عوامل محتملة، قد تخفّض الدعم الشعبي للتحركات العسكرية:

  • طبيعة الحرب ومدتها: قد تستمر الحرب في مواجهة حركة "حماس" طويلاً، وقد تمتد إلى أشهر عديدة، وبدرجات متفاوتة الشدة، بحسب الظروف. في ظل الواقع العسكري المتغير، قد تنكشف مَواطن خلل جسيمة، وصعود وهبوط في منسوب الإنجازات والخسائر. وسيكون لذلك أيضاً أثر في المزاج الوطني العام، الذي سيكون عرضةً للتأثير نتيجة حجم الخسائر في صفوف مقاتلي الجيش، إلى جانب تأثيرات الصدمة الجماعية التي حدثت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وكقاعدة عامة، من المقبول الافتراض أنه كلما كانت الإنجازات العسكرية في الميدان أكثر وضوحاً، وملموسة أكثر، ومهمة أكثر، فيما يتعلق بأهداف الحرب المعلنة، كلما تم تحقيق مزيد من الدعم الشعبي والحفاظ على مستواه. والعكس هنا صحيح. فما يبدو أنه "مراوحة مستمرة"، من دون تحقيق إنجازات، وبالذات في ظل سقوط مزيد من القتلى في صفوف الجيش، قد يؤدي إلى الإضرار بهذا الدعم الشعبي.
  • المخطوفون، الرهائن: هذه القضية المؤلمة والمعقدة، الكامنة في قيام حركة "حماس" بأسر العديد من الأطفال والنساء والمسنين، تُفاقم صعوبة المعضلات التي يواجهها المجتمع الإسرائيلي وصنّاع القرار فيه. وبمرور الوقت، وما دامت هذه القضية الصادمة لم تُحل بصورة تامة، هناك احتمالات لتضرُّر قدرة المجتمع الإسرائيلي ودعم المجهود الحربي بصورة جسيمة.
  • المهجّرون من منطقة "غلاف غزة" والشمال: ويلحق بهؤلاء أيضاً مَن تهجّروا بإرادتهم، الذين يشكلون فئة كبيرة وشديدة التنوع، وبعضهم لا يملك مكاناً يعود إليه، وبعضهم الآخر يُحظر عليه العودة موقتاً إلى منزله. وكلما امتد الزمن، سينفد صبر بعض هؤلاء، ويعبّر بصورة علنية عن الضائقة التي يعيشها، ويقوم بتوزيع الاتهامات بأنه تُرك لمصيره، وهو ما قد يقوّض المزاج الوطني السائد.
  • التحدي المدني الكامن في الجبهة الشمالية: فالعبر المستقاة من أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر في "غلاف غزة"، وتهجير عشرات الآلاف من المواطنين من عشرات البلدات في الشمال، خلق تحدياً صعباً أمام مسألة إعادة هؤلاء إلى روتين الحياة اليومي، إلا إذا تم تغيير الواقع الأمني في الجنوب اللبناني بشكل جوهري. ومثل هذا التغيير قد يتطلب خوض معركة واسعة النطاق، وربما حرباً شاملة، في مواجهة حزب الله. واحتمال أن يكون مثل هذه الحرب شديد الصعوبة على الجبهة الداخلية المدنية في أرجاء إسرائيل، والبنى التحتية الوطنية الضرورية، والاقتصاد الإسرائيلي بأسره. إن حرباً طويلة وشديدة التعقيد في الجبهة الشمالية، على هذا النحو، وخصوصاً إذا ما اندلعت بالتزامن مع استمرار أعمال القتال في قطاع غزة، قد تُراكم مصاعب جمة تثقل كاهل المجتمع المدني، إلى حد زعزعة الإسناد الشعبي للجهد الحربي، وقد تثير، بالتدريج، وعلى الأقل لدى جزء من الجمهور الإسرائيلي، التساؤلات عن جدوى استمرار الحرب، بل قد تثير المعارضة لها، في ظل البحث عن آفاق الانسحاب منها، على الجبهتين.
  • اتساع المواجهة المتعددة الساحات: حتى اللحظة، وعلى ما يبدو، لم يستجب شركاء حركة "حماس" المحتملين إلى دعواتها التي أطلقتها في بداية الحرب، إلى المشاركة في نشاط عسكري مشترك، متعدد الساحات. هذ هي الحال، على وجه الخصوص في لبنان، حيث يمتنع حزب الله حتى الآن، لاعتباراته الخاصة، من تصعيد المواجهة مع الجيش الإسرائيلي. لكن على الرغم من ذلك، فإنه توجد احتمالات للتصعيد وتدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية أيضاً، حيث الصراع العنيف والمتصاعد بين اليهود المنتسبين إلى التيار اليميني المتطرف وبين السكان الفلسطينيين. أما داخل حدود الخط الأخضر، فلا يزال الهدوء سائداً بين العرب واليهود، لكن علينا الانتباه من أن إدارة غير حذرة لهذه العلاقات الحساسة قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات غير مرغوب فيها.
  • الاقتصاد الوطني والشخصي: إن حرباً طويلة، وخصوصاً على جبهتين متوازيتين، لا بد من أنها ستترافق مع أثمان باهظة يتكبدها الاقتصاد الوطني، والأُسري. إن الإنفاق على القتال نفسه باهظ التكلفة، إلى جانب أن مئات الآلاف من مجندي الاحتياط والمهجرين توقفوا عن العمل، وإعادة الدوام في المؤسسات التعليمية وأماكن العمل لا تزال بطيئة، وتعتريها اضطرابات تطال سلاسل التوريد في البلد والخارج، وهذا كله قد يخلق مصاعب شديدة تطال المستويَين القُطري والأسري. هذه الإشكالات قد تنعكس أيضاً على مساندة الجهد الحربي، وتؤدي إلى تقويضها.
  • الإهمال في أداء المؤسسات الرسمية: في مقابل الانخراط المدني الواسع النطاق والملهم، يبرز سوء إدارة في جزء كبير من القطاع الحكومي. لقد أظهر بعض مؤسسات هذا القطاع انتعاشاً بطيئاً، لكن الأمر لا يزال بعيداً كل البعد عن تلبية حاجات الجمهور وتوقعاته في هذه المرحلة الصعبة. هذه الظاهرة تساهم في إذكاء مشاعر الإحباط لدى كثيرين ممن يحتاجون إلى حلول نظامية منهجية، ومساعدة حكومية محددة.
  • السياسة الداخلية الإسرائيلية: إن الشعار المركزي المتداول في أرجاء البلد، ونصّه "معاً سننتصر"، قد يتكشف فراغه في مواجهة سيناريو يتصاعد فيه مجدداً، وبصورة أشد، الاستقطاب العميق في أوساط الجمهور الإسرائيلي. بتنا نرى منذ الآن علائم مثيرة للقلق في هذا الشأن، تشهد على أن الانقسام وسياسة الهويات الفرعية، لا تزال حية وقادرة على التنفس تحت السطح. وهذه هي أيضاً حال الخلافات المبدئية القائمة لدى الجمهور الإسرائيلي تجاه النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، ومكانة السلطة الفلسطينية ودورها في مسألة إعادة الإعمار المستقبلية لقطاع غزة بعد الحرب. إن استمرار الهلع، وكذلك الحرج، وانعدام اليقين، والمصاعب اليومية والإحباط، في ظل غياب إنجازات عسكرية حقيقية وسريعة، أمور كلها قد تتراكم لتعمّق الصدع القائم في المجتمع الإسرائيلي، وهذا الصدع من أهم الأعداء الداخليين للتضامن والإسناد القائمَين، والمطلوبَين بصورة كبيرة، خلال الحرب.
  • إطار الإسناد الدولي: لا تزال إسرائيل، حتى اللحظة، تحظى بدعم كبير جداً من قوى الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والجمهور الأميركي، والجاليات اليهودية في أرجاء العالم. هذا كله يجري، على الرغم من التصدعات المتمثلة في الإعلام المعادي، والمعارضة الشعبية الناهضة، في ضوء الكارثة الإنسانية في قطاع غزة. في هذا السياق أيضاً، يجب علينا الأخذ بعين الاعتبار تفاقُم الحال في أعقاب الضغوط الداخلية، وإطالة أمد الحرب وأضرارها على الصعيد المدني. من المقبول الافتراض أن الضغط الخارجي على إسرائيل، الذي يدعوها إلى الإبطاء، أو لجم التحرك العسكري، سيصل قبل نهوض ضغط داخلي إسرائيلي في هذا الاتجاه. وبصورة أساسية على خلفية الاختلافات العميقة بشأن تحليل الوضع القائم، والمستمد من النقاش في مرحلة "ما بعد الحرب". إن تزعزُع الدعم الدولي، وخصوصاً الأميركي، من شأنه التأثير في الساحة الداخلية بصورة سلبية، ومفاقمة التشكيك والتحفظات داخل إسرائيل بشأن مواصلة بذل الجهد الحربي في قطاع غزة.
  • إن مغازي العوامل المذكورة، وبصورة خاصة في ظل تراكُم محتمل لها كلها، أو بعضها على الأقل، تفيد بأن العامل الزمني هو عامل رئيسي في الحرب، حتى في الحيز الإسرائيلي الداخلي، والذي قد لا يعمل لمصلحة الجهد الحربي. إن حرباً طويلة، وخصوصاً إذا ما اتسع نطاقها ليشمل جبهات إضافية، ستضع صمود المجتمع الإسرائيلي أمام تحدٍ واضح، قد يخلق "ساعة رمل تنازلية" داخلية، فيها ما فيها من اتجاه لزعزعة الانخراط الراهن في دعم المجهود الحربي، والمساس بالتضامن الشعبي وإسناد الجهود الحربية التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي. كما لا يمكن دحض احتمالات حدوث اضطرابات مدنية، ستؤثر بصورة سلبية، بحسب شدتها واستمرارها، ليس فقط في التضامن الشعبي، بل ربما في الإحساس الواضح بالتصميم القائم الآن لدى الجيش الإسرائيلي.
  • بناءً على ما تقدّم، وفي كل الأحوال، لا بد من الاستعداد الآن، والشروع في التحرك فوراً، لمواجهة هذه العقبات المحتملة والمتوقعة، من خلال بناء منظومة حلول لمقاربة هذه القضايا، كل قضية بمفردها، وصولاً إلى بناء وتعزيز حصانة المجتمع الإسرائيلي في الوقت الراهن، خلال خوض القتال.
  • منذ اندلاع الحرب، عملت الحكومة على مواجهة التحديات المدنية الداخلية بصورة جزئية فحسب، وكان هناك كثير من الارتجال والارتباك، ولم يتّسق ذلك مع توقعات الجمهور. إن المجتمع المدني، حتى الآن، بما يشمله من متطوعين وجمعيات، قام بملء الفجوات الكبيرة القائمة في النشاط الحكومي بنجاح، بصورة مفاجئة. لكن هذا الأمر ليس كافياً. فإلى جانب استمرار الحراك المدني، هناك حاجة ماسة إلى عودة الحكومة والنظام السياسي إلى رشدهما. وهذا أول وأهم شروط إنشاء بنية تحتية جديدة ومختلفة للتعامل مع التحديات الداخلية الهائلة.
  • وكما عرف الجيش الإسرائيلي كيف يتعافى بسرعة كبيرة، وفي غضون أيام قليلة، من كارثة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فعلى الحكومة أيضاً القيام بمهماتها على الجبهة المدنية، من خلال توحيد الجهود، وبالاستناد إلى سلّم الأولويات الذي تفرضه الحرب وإسقاطاتها على الساحة الداخلية. أما الآن، وفي الوقت الذي ينصبّ الاهتمام الشعبي على الحرب والجيش، هناك حاجة إلى قيام الحكومة بتنظيم جهدها، بالتعاون مع المجتمع المدني، من أجل توفير حلول لائقة، وعاجلة، في المدى القصير، إلى جانب توفير حلول للمدَيين المتوسط والبعيد. وهناك حاجة أيضاً إلى قيادة قومية تقوم بذلك، الآن!
 

المزيد ضمن العدد