هناك حاجة إلى تقدُّم بطيء في غزة، ويجب ألّا نخضع للضغوط بالإسراع
تاريخ المقال
المصدر
- منذ تجدُّد القتال بعد الهدنة، بدا أن الجيش يراوح مكانه، ولا يتقدم بالسرعة التي تسمح بتحقيق انتصار خلال الفترة الزمنية التي حددها الأميركيون والمجتمع الدولي لإسرائيل. يمكن أن نصف ذلك بعدم تزامُن مثير للقلق بين الساعة السياسية التي بدأت تسير بوتيرة سريعة، وبين ساعة الحسم العسكري التي تتقدم ببطء، وهو ما يجعل القضاء على "حماس" وإعادة المخطوفين أمرين مستحيلَين. لقد ساد هذا الجو أوساط الجمهور بسبب وسائل الإعلام التي نفذ صبر بعضها، الذي يريد تحقيق إنجازات هنا، والآن، وبسبب الضغط المشروع من عائلات المخطوفين ومؤيديهم الكثر الذين يريدون وقف القتال ودفع أي ثمن، في مقابل عودة أحبائهم.
- لكن خضوع كابينيت الحرب والكابينيت الموسّع والحكومة للضغط، سيكون خطأً خطِراً، كما جرى في حرب لبنان الثانية [حرب تموز/يوليو 2006] حين اتخذت الحكومة قرارات بشأن عمليات وخطوات عسكرية بضغط من الرأي العام، وكلها تقريباً انتهت بخسائر كبيرة، وأدت إلى انتهاء الحرب، من دون إبعاد حزب الله عن الحدود ونزع صواريخه. يومها، اضطرت إسرائيل إلى الاكتفاء بالقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن في الأمم المتحدة، والذي نعلم اليوم بأنه ورقة فارغة من دون مضمون.
- يجب ألّا نكرر خطأ صيف 2006. يتعين على الجمهور أن يكون لديه طول نفَس، وأن يفهم أن البطء الظاهري في تقدُّم قوات الجيش العاملة في غزة، ناجم عن 3 عوامل: الأول، له علاقة بالحؤول، بقدر المستطاع، دون وقوع خسائر وإصابات من خلال استخدام نيران كثيفة كغطاء يتدحرج أمام غير القادرين على الركض إلى الأمام، كما جرى مثلاً في حرب الأيام الستة [1967]، وحتى في حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973]. هذا الأسلوب القتالي بطيء عن قصد، وهدفه تحقيق إنجازات وقتل أكبر عدد ممكن من عناصر "حماس"، من دون أن يكون قتالاً وجهاً لوجه، الذي من المؤكد أن الجيش الإسرائيلي قادر على الانتصار فيه، لكنه سيتكبد خسائر. في النهاية، العملية البطيئة تهدف إلى الحؤول دون إصابات ما يسمى باللغة العسكرية (التعرض لإطلاق نيران صديقة)
- السبب الثاني للبطء هو استخدام "مخربي حماس" تكتيك "العدو الخفي". ففي اللحظة التي يتقدم الجيش نحوهم، ينزلون إلى الأنفاق، ويخوضون قتالاً متقطعاً: يخرجون من وقت إلى آخر من الأنفاق، ويطلقون قذائف آر بي جي على الجيش الإسرائيلي، أو يلقون عبوة، ويعودون إلى النفق. ويخدم هذا التكتيك استراتيجيا مقصودة تسعى "حماس"، في إطارها، لتحقيق النصر من خلال إطالة الوقت وتعريض الأبرياء للأذى، إلى أن يفرض المجتمع الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة، على إسرائيل وقف الحرب والخضوع لمطالبها. وبهذه الطريقة، تبقى "حماس" في الحكم في القطاع، وتبتز إسرائيل بطلب إطلاق سراح جماعي للأسرى الأمنيين.
- السبب الثالث الذي يدفع الجيش إلى العمل ببطء، هو الحؤول دون احتمال إصابة المخطوفين. وينطبق هذا على شمال غزة وجنوبها. حجة أهالي المخطوفين بأنه يجب وقف القتال من أجل تقليص الخطر الذي يتعرض له المحتجزون، لا تخلو من المنطق، لكن عليهم أن يدركوا أن الفرصة الوحيدة لإطلاق المحتجزين، وهم في قيد الحياة، خلال فترة زمنية معقولة، تكمن في زيادة الضغط العسكري. في المقابل، إن وقف القتال سيسمح لـ"حماس" بمواصلة التنكيل بعائلات المحتجزين، وبالجمهور الإسرائيلي كله، والابتزاز لتحقيق مزيد من التنازلات، وبوقت ثمين يتيح لها البقاء في السلطة في غزة، بحماية المجتمع الدولي.
- مَن يريد تحرير المخطوفين، عليه تأييد الضغط العسكري، وهذا ما يفعله الجيش ضمن حدود المحافظة على أمن القوات. لا يعرف الجمهور كل شيء عن أساليب العمل في جنوب القطاع، ويمكن القول ضمن قيود الرقابة، إن قتالاً عنيفاً يدور هناك، لكن بأساليب عمل مختلفة ومحددة أكثر، وتعتمد على معلومات استخباراتية مؤكدة، ومن دون قصف جوي عنيف.
- البطء في العملية في الجنوب ناجم عن الضغط الأميركي لمنع تعرُّض المدنيين غير المتورطين للأذى. لكن بعكس ما تصوّره التقارير في وسائل الإعلام، وفي التصريحات العلنية لكبار المسؤولين في واشنطن، لم تُفرَض على إسرائيل قيود زمنية. تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن بشأن منح إسرائيل بضعة أسابيع للعمل، موجهة إلى آذان الجناح التقدمي الليبرالي في الحزب الديمقراطي للرئيس بايدن، ولا تشكل إملاءات على الحكومة الإسرائيلية. وبالاستناد إلى معلومات موثوق بها، يمكن القول إن الأميركيين لا يضغطون لإنهاء القتال خلال أسابيع، لكنهم بالتأكيد يريدون حدوث ذلك.
- لإدارة بايدن، بكافة فروعها، مصلحة واضحة في عدم بقاء "حماس" في غزة، بعد القتال، تماماً مثل المصلحة التي كانت للولايات المتحدة حيال "داعش" و"القاعدة". من هنا، لا يوجد ضغط جوهري على إسرائيل لتسريع القتال. القيد الوحيد الذي فرضته الإدارة الأميركية هو الحذر وعدم التسبب بعمليات قتل جماعي لمدنيين غير متورطين.
- من أجل هذه الأسباب كلها، يجب على الجمهور ألّا ينفذ صبره إزاء وتيرة التقدم في الحرب، وعليه عدم الضغط على كابينيت الحرب والكابينيت الموسع، وعلى الحكومة. يجب أن يحصل الجيش على نافذة مفتوحة من الوقت، ليس فقط من الإدارة الأميركية، بل أيضاً من الجمهور الإسرائيلي. يجب أن نتذكر أن في الحكومة، وفي الكابينيت الموسع، أشخاص لا يعرفون، في أغلبيتهم، كيف يعمل الجيش، وما الذي يمكن تحقيقه. هم يتخذون قرارات تتعلق بالمقاتلين في ميدان القتال من دون أن يكون لديهم الحد الأدنى من المؤهلات. الضغط الشعبي يُترجم فوراً إلى ضغط سياسي لوقف القتال، أو تقصير مدّته، من دون تحقيق الأهداف.
- لذلك، نحن في وسائل الإعلام، وأيضاً الجمهور الذي يفهم، في أغلبيته، ما يفعله مقاتلو الجيش في ميدان المعركة، ويعلم بأن الطريق لا تزال طويلة، يجب الامتناع من إظهار نفاذ الصبر والمطالبة بالوقف الفوري للقتال. نحن في حرب، والحرب تتطلب هدوءاً وإصراراً من صنّاع القرار، ومن الجمهور.