التصريحات المتفلتة للمسؤولين في إسرائيل تُفاقم تردّي وضعها القانوني
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • طلب الاستئناف الذي تقدمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، بدعوى أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة، والتماسها المطالبة بإصدار أمر موقت لوقف نشاطاتها العسكرية في غزة، قد يمثل خطراً حقيقياً على الموقف الإسرائيلي. إن مثل هذا الأمر موجّه ضد الدولة، ولا يحدد مسؤولية شخصية جنائية لفرد ما، لكنه يمكن أن يُستخدم أيضاً كخلفية وأساس لإجراءات قضائية في المحكمة الجنائية الدولية، وخصوصاً إذا وجهت محكمة العدل الدولية إصبع الاتهام إلى شخصيات معينة.
  • تتمثل المشكلة، إسرائيلياً، في أن جريمة الإبادة الجماعية معرّفة، بصورة قاطعة، بأن هدفها التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية. وعندما يترافق هذا الهدف مع قتل عدد، ولو كان قليلاً، من هذه المجموعة الكبرى، أو حتى التسبب بإصابة خطِرة لبعض هؤلاء، فإن هذه الأفعال تندرج في إطار جريمة الإبادة الجماعية. كذلك هي الحال بشأن فرض ظروف معيشية معينة على مثل هذه الفئة، بهدف القضاء عليها، إمّا بصورة شاملة، أو جزئية.
  • عادةً ما يكون هناك مشكلات في إثبات الأساس النفسي لهدف الإبادة. لكن سيكون في الإمكان، في حالتنا هذه، عرض سلسلة طويلة من تصريحات الساسة الإسرائيليين أمام المحكمة (وضمنها تصريح الوزير عميحاي إلياهو، الذي قال إن إلقاء قنبلة نووية على غزة هي "طريقة إضافية" للقتال ضد ’حماس’)، وقادة الرأي الذين دعوا إلى التعامل مع غزة كما تعامل العبرانيون القدامى مع شعب العماليق (مثلاً، نتنياهو الذي اقتبس في رسالته الموجهة إلى الجنود مقطع "تذكّر ما الذي فعله بك العماليق")، وتجويع سكان غزة بلا رحمة، وغياب أي تمييز بين مقاتلي "حماس" وسكان غزة من غير المقاتلين، والدعوة إلى التخفيض الجذري لعدد سكان غزة (بناءً على تصريح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش: "إذا كان في غزة 100 أو 200 ألف من العرب، بدلاً من مليونين، فإن النقاش بشأن اليوم الذي يتلو الحرب سيكون مختلفاً")، أو الإبادة الجماعية لهؤلاء السكان.
  • إن التعريف الغامض والفضفاض لأهداف الحرب المعلنة أيضاً، وخصوصاً إزاء كل ما يتعلق بالبنية السلطوية (لا العسكرية) لـ"حماس" في غزة، لا يفيد إسرائيل. إلى جانب امتناع النيابة العامة من فتح تحقيقات ضد عبارات واضحة تدعو إلى إبادة شعب. إن هذا الخطاب غير المسؤول، والهائج، يضرّ بإسرائيل كثيراً.
  • إن الطريقة للحد من الأضرار هي في وضع حاجز فاصل بين هذه الثرثرة وبين قيادة الجيش. سيكون هناك حاجة إلى إظهار أن الجيش لا ينجرف مع هذا التيار العكر، ويلتزم قوانين الحرب والمبادىء الأخلاقية الإنسانية الأساسية. سيكون من السهل النجاح في تحقيق ذلك عندما يكون المقصود أشخاصاً من المؤثرين بمختلف أنواعهم. لكن سيكون من الأصعب فعل ذلك عندما تصدر هذه التصريحات عن سياسيين وأعضاء في الحكومة يخضع الجيش لهم. عندما تقوم إسرائيل أمام المحكمة بعرض الفظائع التي قام بها "مخربو حماس" والغوغائيون الذين رافقوهم، بكل ما في هذه الفظائع من تفاصيل وخطورة، إلاّ أنه من الخطأ اعتبار هذا الأمر كافياً، لأن الصور المرعبة قد تُفسّر بأنها حافز للانتقام والرد المتطرف غير الملجوم، الذي يصل إلى حد الإبادة الجماعية.
  • يجب أن نأخذ في اعتبارنا أيضاً أن دلائل ستُقدم إلى المحكمة على ما ألحقته هجمات الجيش بالسكان المدنيين، وهؤلاء، بحسب القانون الدولي، لا يتساوون مع "حماس". ونحن كإسرائيليين، لا نشاهد هذه الصور والمعاناة الخطِرة فيها، وهو ما يخلق لدينا تصوراً جزئياً ومشوهاً عن الواقع. هذه الصورة المتشكلة لدينا ليست هي الصورة التي ستراها المحكمة.
  • إن الأفعال التي تندرج في نطاق الدفاع المشروع عن النفس هي أفعال مبررة، وبالتالي لا يمكن إدراجها ضمن جريمة الإبادة الجماعية. وسيتعين على إسرائيل أن تثبت أن تصرفات الجيش تندرج تحت هذا التعريف. هذا يعني أن الجيش، الذي شن الحملة بعد تعرُّض إسرائيل لهجوم وحشي غير عادي، وجّه هجماته نحو أهداف عسكرية، لا مدنية، وتم الالتزام بمبدأ التناسبية. ومعنى هذا المبدأ يتمثل في الموازنة بين هدف العمل العسكري (الإنجاز العسكري المطلوب) والضرر اللاحق بالمدنيين غير الضالعين في القتال، بحيث لا يكون الضرر اللاحق بالمدنيين مفرطاً.
  • سيتعين على إسرائيل، أولاً وقبل كل شيء، أن تبين أن الإجراءات التي يقوم بها الجيش تلتزم قواعد الحرب. بمعنى أنه كان هناك إجراءات منظمة وصارمة تعتمد على الاستشارة القضائية، يتم في إطارها موازنة المنفعة والضرر الناجمَين عن عمل عسكري معين، ويظهر في نتيجتها أن الضرر الذي سيلحق بالمدنيين ليس مبالغاً فيه، قياساً بالهدف العسكري المنشود.
  • إن السؤال الأساسي المتمثل في "متى يُعتبر الضرر اللاحق بالمدنيين مفرطاً"، هو سؤال صعب ومعقد، وما من إجابة واضحة عنه. في هذا السياق، ستكون إسرائيل مُلزمة، بحكم وفرة الأدلة التي تملكها، بالإشارة إلى "الاستخدام الإجرامي" (المخالف لقوانين الحرب) الذي استخدمته وتستخدمه "حماس" ضد السكان المدنيين؛ في المستشفيات، والمساجد، والمدارس، ورياض الأطفال، والمنازل الخاصة، كدروع بشرية في مواجهة الجيش الإسرائيلي. كما أن على إسرائيل بذل جهدها من أجل إبعاد السكان المدنيين عن الأهداف العسكرية، كي لا يتعرضوا للأذى. والسؤال الذي ستطرحه إسرائيل بكل صرامة أمام المحكمة هو: هل يُعقل أن قوانين الحرب تمنع المعتدى عليه من الدفاع عن نفسه بشكل فعال لأن المعتدي يحيط نفسه بالمدنيين؟ ومع ذلك، فسيتعين على إسرائيل مواجهة عدة حالات وقعت فيها، ظاهرياً، إصابات لعدد كبير من المدنيين بصورة جسيمة للغاية، حتى عندما كان الهدف العسكري متواضعاً (من حيث الإنجاز المنشود).
  • وحتى لو ثبت أن إسرائيل خرقت في بعض الحالات قوانين الحرب في هذا الصدد، هذا لا يعني أنها ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية. من أجل تحقيق ذلك، من الضروري إثبات توفّر أركان هذه الجريمة، وعلى رأسها إثبات عنصر الهدف. من خلال الصراخ، والإحباط، والعنصرية، تسببنا لأنفسنا بأضرار جسيمة في هذا السياق. من الخطر أن نترك لأنفسنا العنان، استناداً إلى أن الشعب اليهودي كان ضحية لجريمة إبادة شعب، أو إلى مقارنة ما قام به الجيش الإسرائيلي بما قامت به جيوش أُخرى (كالجيش الأميركي) من ناحية العلاقة العددية بين الضحايا العسكريين والمدنيين. إن القانون الدولي لا يخلو من حالات التطبيق الانتقائي، وما لم يتم طرحه أمام المحكمة [عدم وجود ادعاءات أمام المحكمة بشأن قيام الجيش الأميركي بتنفيذ إبادة جماعية، على الرغم من العدد الهائل لضحاياه من المدنيين] للبت فيه، لن يشكل سابقة في أي حال.
  • لكن الضرر الذي قد يلحق بإسرائيل ليس ضرراً قانونياً فحسب. فإذا أصدرت محكمة لاهاي أمراً احترازياً، سواء أكان كاملاً أم جزئياً، أو حتى لو لم تُصدر المحكمة أمراً كهذا، واكتفت بتوجيه انتقاد لسلوك إسرائيل في غزة، فإن حركة مقاطعة إسرائيل في العالم ستتعزز بكثافة. ومن المرتقب أن نشهد محاولات لفرض عقوبات على إسرائيل بواسطة مجلس الأمن (وما من أحد يمكنه إنقاذنا من أيدي هؤلاء سوى بايدن)، أما العلاقات الإسرائيلية بالدول العربية فستكون أمام اختبار صعب، ومكانة إسرائيل في العالم ستتضرر بصورة جسيمة.
  • هناك عاملان يؤديان إلى تدهور مكانة إسرائيل أمام كلٍّ من المحكمة والمجتمع الدولي: حقيقة أن أعضاء حكومة إسرائيل والكابينيت السياسي- الأمني الخاص بها هم من الوزراء العنصريين والأصوليين؛ وكون إسرائيل انحرفت عن طريق جهود التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، بل إنها ترفض هذا المسار إلى حد حرمانهم من تقرير المصير القومي. هذان العاملان يجعلاننا خاسرين في الساحة الدولية.
  • ما دامت إسرائيل مستمرة في السير في هذه الطريق المسدودة، فإن موجات معاداة إسرائيل والسامية سترتفع، وستواصل مكانة إسرائيل بين الدول بالتدهور. ولو كانت إسرائيل ساعية للسلام، وملتزمة القيم الإنسانية، لما كان في الإمكان استدعاؤها للمثول أمام محكمة العدل الدولية.
 

المزيد ضمن العدد