معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- تخوض إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إلى جانب الحرب في قطاع غزة، نشاطاً عسكرياً على جبهة ثانوية في الحدود الشمالية. عملياً، تُعتبر هذه المواجهة حرباً صغيرة، ويُشار إلى اتجاه واضح نحو تصعيد حدة القتال هناك، حتى لو كان هذا التصعيد محدوداً. قد يتدهور هذا الوضع نحو حرب واسعة النطاق على لبنان، إمّا نتيجة قرار مقصود، وإمّا نتيجة دينامية التصعيد، وإمّا نتيجة خطأ يرتكبه أحد الطرفين. لكن في هذه المرحلة، وعلى الرغم من التهديدات المتكررة التي تصدر عن إسرائيل، يظل حزب الله ملتزماً معادلات العمل التي أرساها تجاه إسرائيل (إلا في حالات محددة، كاغتيال العاروري في بيروت، الذي أدى إلى ردات فعل استثنائية)، وعلى ما يبدو، انطلاقاً من رغبة في تلافي حرب شاملة حتى الآن.
- المعضلة الكبرى التي تواجه دوائر صُنع القرار في إسرائيل في المدى القريب، تتعلق بضرورة تحسين الاستعدادات الأمنية ورفع نسبة الشعور بالأمان لدى سكان الشمال الذين تم تهجيرهم، لكي يتمكنوا من العودة إلى منازلهم، في ظل تعهُّد حزب الله مواصلة القتال ما دامت الحرب مستمرة في غزة. على الرغم من أن إخلاء البلدات يساعد، ولو جزئياً، على احتواء النزاع الحالي، ما دامت الحرب مستمرة، إذ إن إخلاء البلدات يقلص كثيراً خطر تعرُّض المدنيين الإسرائيليين لأذى الصواريخ المضادة للدروع، أو صواريخ أرض - أرض، التي يطلقها حزب الله.
- وإلى جانب التوتر القائم، بوضوح، بين الحاجة إلى ضمان أمن السكان، وبين غياب الرغبة في الانجرار إلى حرب واسعة، يواجه النظام الإسرائيلي تحدّي إعادة السكان إلى منازلهم، وهي مسألة لا تتعلق فقط بالظروف العسكرية، بل بشعور السكان أنفسهم بالأمان. تعلو في وسائل الإعلام الإسرائيلية أصوات سكان الشمال ورؤساء التجمعات السكانية، الذين يدّعون أنه لم يعد في الإمكان الاعتماد على التصورات التي كانت قائمة قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فيما يتعلق بنيات حزب الله، أو التزامه معادلات العمل، وأنهم لن يعودوا إلى منازلهم قبل انسحاب ناشطي التنظيم، بعيداً عن الخط الحدودي. كما أن رؤساء المنظومة الأمنية أعلنوا التزامهم عدم العودة إلى الواقع الذي كان سائداً في الشمال قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وأنه لن تتم إعادة السكان إلى منازلهم قبل إبعاد حزب الله عن الحدود، سواء بواسطة اتفاقية سياسية، أو نتيجة عمل عسكري، أو نتيجتهما معاً.
- يسعى هذا المقال لتسليط الضوء على عدد من الفجوات في الوعي، المرتبطة بمسألة عودة المدنيين، ونشاطات الجيش في الجبهة الشمالية، إلى جانب فحص درجة التأييد الشعبي لشن حرب واسعة النطاق على لبنان.
حرب تخاض كشرط لعودة السكان: هل هذا صحيح؟
- تناولت استطلاعات الرأي التي أجراها معهد INSS الإجابات عن سؤال "ما هو المطلوب لكي يتمكن سكان الشمال من العودة إلى منازلهم"؟ أجابت قلة من المشاركين في الاستطلاع (نحو 20% فقط) من العينة السكانية العامة وعينة من سكان الشمال، أنها لن تتمكن من العودة إلى منازلها ما دامت لم تُشنّ معركة كبيرة في الشمال، في تناقض مع الانطباع السائد في وسائل الإعلام الإسرائيلية، والذي يفيد بأن هناك تأييداً كبيراً للقيام بعمل عسكري واسع النطاق كشرط لعودة هؤلاء. إلى جانب ذلك، إن تأييد احتمال التوصل إلى تسوية سياسية من أجل ضمان عودة السكان طُرح في الفترة الفاصلة بين استطلاعات الرأي المتعددة، في موازاة انخفاض في استعداد بلدات الشمال للاكتفاء بوجود الملاجئ وتحصين البلدات. ففي حين قال 25% من الجمهور، في 19/11/2023، إن سكان الشمال سيعودون إلى منازلهم بشرط التوصل إلى خطة سياسية تقضي بإبعاد حزب الله عن الحدود، واستبداله بقوات دولية، فإن نحو ثلث المشاركين في الاستطلاع (33.8%) أيدوا مثل هذا الخيار، بتاريخ 24/12/2023. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه الإجابة في الحالتين حظيت بدعم أقل من سكان الشمال (14% بتاريخ 18/11، و18% بتاريخ 24/12).
طبيعة نشاط الجيش الإسرائيلي في لبنان
- في الخطابين العام والإعلامي، يتم تقديم النشاط الإسرائيلي على الجبهة الشمالية بأنه غير كاف لخلق واقع أمني محسّن على الحدود، وتم التلميح إلى أن مثل هذا الواقع سيتحقق، فقط بحرب شاملة. ومع ذلك، فإن الجيش الإسرائيلي، في كثير من الحالات، يتصرف بشكل هجومي، ويكبّد حزب الله أثماناً باهظة، بهدف تقليص قدرات الحزب العسكرية التي تمت مراكمتها طوال أعوام، ومن أجل إعادة ترسيخ حالة الردع إزاءه. يتضح من إعلانات الجيش أن مئات الهجمات نُفّذت في الجنوب اللبناني منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، نُفّذ بعض هذه الهجمات في عمق الأراضي اللبنانية. ونتيجة هذه الهجمات، تم تدمير كثير من البنى التحتية التابعة للتنظيم، بالإضافة إلى جميع نقاط المراقبة التابعة له على امتداد الحدود، كما قُتل (بحسب إحصائيات حزب الله نفسه) حتى بداية كانون الثاني/يناير، أكثر من 150 من ناشطي الحزب. لقد أصيبت القرى الشيعية القريبة من الحدود، التي ينطلق منها الحزب، بدمار هائل، وبحسب مصادر أجنبية، نفّذ الجيش عمليات اغتيال وهجمات في سورية ضد ناشطين من حزب الله والحرس الثوري، وظل الجيش محافظاً على حرية العمل الجوي في سماء لبنان. كما يتضح من تقارير إعلامية أن حزب الله شرع في سحب، أو على الأقل إخفاء، عناصر "قوة الرضوان" الذين كانوا حاضرين قريباً من الحدود، خوفاً من غارات الجيش. بينما كانت عملية اغتيال صالح العاروري في بيروت أيضاً خطوة عدوانية تجاوزت كل معادلات العمل التي كانت سارية حتى الآن، والتي دفعت بحزب الله إلى الرد عليها.
- تسارُع نشاط الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الماضية، يعكس جرأة متزايدة وسعياً لتحقيق إنجازات ضد حزب الله الذي يتكبد خسائر هائلة، في ضوء الضرر المحدد الذي أصاب قدراته، والذي قد يساعد في ترميم قدرة الردع الإسرائيلية. وفي المقابل، تتصاعد الأصوات الآتية من المستويَين السياسي والعسكري، عبر وسائل الإعلام، والتي تهدد بشن حرب واسعة النطاق في لبنان، وتؤكد الإصرار المتمثل في خلق واقع أمني أفضل في "اليوم التالي للحرب". لقد استوعب الجمهور الإسرائيلي هذه الرسالة بصورة جيدة، على الرغم من أنه لا يعرف أبعاد الإنجاز التراكمي الذي نشأ على الحدود الشمالية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
دعم توسيع نطاق النشاط العسكري، من دون
أن يعني ذلك، بالضرورة، شن حرب
- تُظهر الاستطلاعات أيضاً أن أغلبية المشاركين فيها، ممن يعيشون في الشمال، يدعون إلى توسيع نطاق النشاط العسكري الإسرائيلي، لكنهم لا يؤيدون، بالضرورة، المبادرة إلى شن حملة واسعة النطاق. فعلى سبيل المثال، تم توجيه سؤال في إطار استطلاع المعهد بتاريخ 10/12: "كيف يجب أن تكون ردة فعل إسرائيل في مواجهة هجمات حزب الله، في رأيك؟". تعتقد أغلبية كبيرة من الجمهور أن على إسرائيل تصعيد نطاق ردودها على عمليات حزب الله. وافترض 29% فقط أن على إسرائيل الالتزام بقواعد التصعيد المعمول بها حالياً، في حين أيّد 20% فقط شن حرب واسعة النطاق. أمّا بقية المشاركين في الاستطلاع، فافترضت أن على إسرائيل اختيار طريقة من 3 طرق عمل، أكثر قوة.
- يُظهر توزيع الإجابات، بحسب مكان الإقامة، أن سكان حيفا والشمال، كما هي حال سائر سكان إسرائيل، معنيون بتصعيد نشاط الجيش. ومع ذلك، وعلى عكس العينة بأكملها، ربما أيضاً لأن هؤلاء السكان هم الذين سيضطرون إلى تحمّل أعباء الحرب، إذا اتسعت، فإن نسبة كبيرة منهم تعتقد أن هذا النشاط يجب أن يقتصر على إلحاق الضرر بحزب الله. إن نسبة مؤيدي شن حملة عسكرية واسعة، قد تصل إلى حرب إقليمية، هي أكثر انخفاضاً في أوساط سكان الشمال، مقارنةً بالمجموع العام للسكان (10% في مقابل 17%). وفي المقابل، فإن سكان الشمال الذين يؤيدون نشاطاً عسكرياً واسع النطاق، حتى لو كان الثمن اندلاع حرب إقليمية، يؤيدون أيضاً احتلال مناطق في الجنوب اللبناني والسيطرة عليها، وكانت نسبة هؤلاء أعلى كثيراً من نسبة الذين يؤيدون هذا الخيار من العينة العامة للسكان (23% مقارنةً بـ18%). هناك نسبة مرتفعة من سكان الشمال وسكان حيفا تؤيد أن يكون النشاط العسكري هجومياً ومبادراً أكثر، من دون أن يؤدي إلى التدهور نحو حرب إقليمية، وفي حال كان هذا الخطر قائماً، فهم يفضلون إنشاء حزام أمني، على غرار الحزام الذي كان موجوداً في لبنان في الماضي. وعلى الرغم من ذلك، فإن الخيار الذي حظيَ بأوسع تأييد في أوساط سكان الشمال، يفيد بأن على إسرائيل المبادرة إلى نشاط عسكري محدود يستهدف حزب الله، أي نشاط عسكري يشبه الوتيرة المعمول بها حالياً على الأرض، بعكس ما تروّجه وسائل الإعلام الإسرائيلية.
- تَظهر الخشية من اندلاع حرب إقليمية أيضاً في الإجابات المتعلقة بجاهزية الجبهة الداخلية للحرب. ففي 22/10/2023، تم طرح سؤال "إلى أي مدى، في رأيك، تُعتبر الجبهة الداخلية محمية من هجوم من حدود الدولة الشمالية؟"، واتضح أن نحو نصف الإسرائيليين (46.4%) يفترضون أن الجبهة الشمالية محمية بصورة ضعيفة، أو أنها غير محمية من مثل هذه الهجمات مطلقاً. إن مثل هذا الموقف يعكس تقييماً واقعياً للأثمان التي ستضطر الجبهة الداخلية، غير المحمية كما يجب، إلى دفعها، في حال حدث تصعيد على الحدود الشمالية. إن مثل هذا التقدير هو السبب الأساسي الداعي إلى التخوف من اندلاع مثل هذه الحرب. إن المستويات العليا في الجيش تؤيد هذا الرأي أيضاً، وخصوصاً في قيادة الجبهة الداخلية، وتقول إن هناك حاجة إلى تحسين التحصين في مواجهة التهديدات الشمالية. وفي موازاة ذلك، لوحظ وجود ثقة عالية جداً بقدرات الجيش على تحقيق النصر في معركة الشمال، في حال اندلعت. لقد طُرح هذا السؤال عدة مرات، ولوحظ في أغلبية الاستطلاعات وجود ثقة عالية جداً، تناهز الـ 90%، بقدرات الجيش. وعلى الرغم من الثقة العالية بأن الجيش قادر على تحقيق النصر في معركة على الجبهة الشمالية، فإن الجمهور واعٍ تماماً بالأثمان الباهظة التي ستتكبدها الجبهة الداخلية نتيجة ذلك، ولذا، فهو لا يؤيد اندلاعها.
- في الخلاصة، يتضح من الاستطلاعات أن الجمهور الإسرائيلي، وخصوصاً سكان الشمال، معنيّ بتصعيد الرد على حزب الله، لكن في المقابل، لا يشترط هؤلاء موضوع عودة السكان إلى منازلهم، بشن حرب شاملة في الشمال. يرى الجمهور أن الرد المطلوب الضامن لأمن سكان الشمال يتمثل في رد متعدد الأبعاد، يشمل نشاطاً عسكرياً إسرائيلياً هجومياً أكثر، مع تحسين كبير في الاستعدادات الدفاعية، (وأهمها تحصين البلدات بمزيد من الملاجئ)، إلى جانب السعي لخطوة سياسية تؤدي إلى التوافق على إبعاد ناشطي حزب الله عن الحدود، وتضمن استعادة الهدوء هناك. يُستحسن أن تقوم الجهات الأمنية والإعلامية في إسرائيل بعرض معلومات أكثر، تتناول نسبة ووتيرة النشاطات العسكرية الإسرائيلية في الشمال وطبيعتها، وصولاً إلى تقليص الفجوة البارزة بين الخطاب العام بشأن ضرورة شن حرب عسكرية شاملة من أجل إعادة السكان إلى منازلهم، وبين مواقف الجمهور، التي تظهر في استطلاعات الرأي.