على مفترق الحسم، بين تقويض "حماس" وصفقة تبادُل
تاريخ المقال
المصدر
- تجسّد حرب السيوف الحديدية، التي تدخل يوم الأحد حاجز المئة يوم على اندلاعها، تشكيلة من الضربات الاستباقية بالنسبة إلى إسرائيل: فهناك المفاجأة الاستراتيجية من جانب عدو ليس دولة، والتي كشفت القصور في التصورات الإسرائيلية والنقص الشديد في فهم "الآخر" على مدار السنوات الأخيرة؛ "المذبحة الجماعية" التي لم يسبق في تاريخ الصراع سقوط عدد ضحاياها من الإسرائيليين في يوم واحد كما حدث صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وعملية "الغزو" الأكبر لأراضي البلد، التي تسببت بتدمير المستوطنات وتحويل سكانها إلى لاجئين، ويضاف إلى ذلك، طبعاً، الاختطاف الجماعي الذي لا يزال يمثل جرحاً مفتوحاً ونازفاً بالنسبة إلينا.
- لقد أطلق هذا الحدث الخطِر من أعماق الوعي الجماعي للإسرائيليين ذكريات مؤلمة بشأن التهديد بالفناء. كما قوض الثقة بالنفس الناجمة عن نجاح اليهود في الإفلات من مصائرهم التاريخية التراجيدية، عبر نجاحهم في مراكمة القوة، والصمود كفقاعة غربية ثابتة في قلب منطقة "متوحشة". ومن هذه الفجوة القائمة بين ذلك التصور، والخلل الشديد الذي كشف عنه يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، من الناحية الحكومية والأمنية، والاستخباراتية بالذات، انبثقت مشاعر قوية من الإذلال الوطني، بل حتى القلق الوجودي.
- في الجانب السلبي من التوازن الاستراتيجي الإسرائيلي، يمكن لنا أن نلحظ مكونات أُخرى: الاغتراب الشديد بين الشعب والقيادة، والذي كان قائماً حتى قبل الحرب بسبب التعديلات القضائية، وقد صار أكثر حدّة خلالها؛ والمصاعب التي واجهت قدرتنا على خوض الحرب على عدة جبهات، بالترافق مع ازدياد الاعتماد الإسرائيلي على الدعم الأميركي؛ وعدم القدرة على تقديم حل سريع وكامل لقضية المخطوفين؛ والانتقادات اللاذعة من جانب المنظومة الدولية، والمصاعب التي نلاقيها في تجنيد التعاطف مع معاناتنا وتعقيد المعركة؛ وانعدام قدرتنا على توفير حل شامل للتهديدات التي تظهر من جبهتَي الشمال والبحر الأحمر، بتوجيه من إيران، والتي تعزز مكانتها كقوة إقليمية، وتسرّع برنامجها النووي.
- لكن الحرب الراهنة، هي مثل حال حرب 1973، غنية أيضاً بالإنجازات، وخصوصاً على المستوى العسكري. لقد استعاد الجيش الإسرائيلي القبض على زمام الأمور بسرعة نسبية، فتمكن من شن هجوم مضاد في أراضي العدو، وتمكن في واقع الأمر من السيطرة على نحو نصف أراضي القطاع. وعلاوةً على ذلك، ألحقت إسرائيل أضراراً غير مسبوقة بـ"حماس"، من حيث القضاء على قادتها، وتدمير بنيتها التحتية العسكرية، وعلى رأس هذه البنية شبكة الأنفاق الواسعة، وخفض تهديدها الصاروخي بشكل كبير، بينما عاش الشعب الفلسطيني بأسره قتلاً وتدميراً يفوقان ما حدث في نكبة 1948. إلى جانب ذلك، برز النجاح الإسرائيلي في الحفاظ على هدوء نسبي في الضفة الغربية، وفي أوساط الجمهور العربي في إسرائيل، وهو ما سبب إحباطاً عميقاً لـ"حماس"، إلى جانب المحافظة على معاهدات السلام مع الدول العربية، والنجاح في تجنيد الدعم من كثير من دول الغرب، وتأكيد التحالف المتين بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي يشكّل مكوّناً رئيسياً في صورة الردع، كما ثبت في المواجهة مع حزب الله.
- ظهر الإنجاز الأكثر بروزاً بالذات في الساحة الداخلية، وتجسد في التعبئة الشعبية العامة غير المسبوقة للمعركة، وبروز الصمود الداخلي، والتضامن، والتكافل الاجتماعي، والاستعداد للتضحية، أمور كلها تتيح استمرار القتال، وعلى ما يبدو، لقد صدمت السنوار الذي كان يؤمن بأن المجتمع الإسرائيلي غير قادر على الصمود في معركة طويلة الأمد، وكثيرة التضحيات. هذه حالة نادرة على مستوى عالمي، يمثل فيها الشعب محركاً رئيسياً لجهد وطني عسكري، على الرغم من الفجوات وأزمات الثقة بين الشعب وقيادته. صحيح إن الأجواء العامة كانت متكدرة إلى حد ما على مدار الأيام المئة الماضية، إلا إن روتين الحياة في جزء كبير من الدولة ظل قائماً، وخصوصاً في أداء المنظومات الحكومية والاقتصادية، والحفاظ على النظام العام، ومواصلة الأنشطة الاجتماعية.
- إذاً، بعد مرور 100 يوم على اندلاع الحرب، نشهد تصميماً لدى الجمهور الإسرائيلي على مواصلة القتال، لكن إلى جانب هذا التصميم، يزداد الشعور بالقلق، ومردّه إلى أن الأهداف الرئيسية للحملة لم تتحقق: إذ لم تتم إطاحة نظام "حماس"، ولم تجرِ استعادة المختطفين. ونتيجة هذا، تتمثل في ظهور تدريجي لواقع ضبابي يرافقه تصور سياسي وعسكري غير واضح لدى الجمهور الإسرائيلي، ومن شأنه أن يكون كارثياً: إذ هناك احتمال أن تتحول الحرب في غزة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تتيح لـ"حماس" الادعاء أنها تمكنت من الصمود، حتى بعد تعرُّضها لضربات قوية، وعلى الرغم من أن سيطرتها باتت تنحصر في جزء من القطاع فحسب. علاوة على ذلك، إن مثل هذه الحالة الموقتة لن يتيح ترسيخ نظام جديد في غزة في إطار "اليوم التالي"، مترافقاً مع رقابة دولية متزايدة، وهذه الحالة لن تسمح بعودة سكان بلدات "غلاف غزة" إلى منازلهم، أو التقدم بصورة مرضية نحو إنجاز صفقة تبادُل، وهي بصورة أساسية ستبث اليأس في روح الجمهور، في ضوء الفجوة الآخذة في الاتساع، بين أهداف الحرب، وما تم تحقيقه على أرض الواقع.
- الآن، إسرائيل على مفترق طرق، وعليها الاختيار بين مسارَين متعارضَين: إمّا الدفع في اتجاه صفقة تبادُل معناها ترك "حماس" وشأنها، وربما تعني انسحاباً موقتاً من غزة، وإمّا استمرار بذل الجهود من أجل تقويض سلطة "حماس"، وهو أمر يستوجب السيطرة على قطاع غزة كله، بكل ما يحمله ذلك من معانٍ من ناحية الأثمان العسكرية والسياسية والاقتصادية والشعبية الباهظة. لا يجب أن تغرينا الحلول الأُخرى، على غرار الحل المتمثل في إقناع قادة "حماس" بإخلاء غزة، أو تهجير سكان القطاع بالقوة، وإرساء سلطة عشائرية على مَن تبقى منهم، فهذه الأفكار يُعد احتمال تحقيقها ضئيل، ومجرد مناقشتها يُفاقم الارتباك والإحباط في وسط الجمهور الإسرائيلي.
- إن النظرة القويمة إلى الواقع مطلوبة أيضاً على الجبهة الشمالية، التي تظل (حتى الآن على الأقل) جبهة ثانوية. إن فرص إخلاء الجنوب اللبناني من قوات حزب الله، وفقاً للقرار 1701، من خلال تسوية سياسية، ليست فرصاً ضعيفة، إلا إنها مليئة بعلامات السؤال، وهي تنطوي على خطر تشكُّل واقع غامض بمرور الوقت، تستمر في إطاره المناوشات العسكرية، ويحول دون عودة السكان الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال. علينا أن نحذّر، في الشمال كما في الجنوب، من الحلول المعقدة الغريبة عن القواعد المعمول بها في الشرق الأوسط، وعلينا أن نفضّل الحسم العسكري، حتى لو كان ثمن هذا الحسم باهظاً، بدلاً من إبقاء الأمور مفتوحة النهايات.
- لم ينتقل الإسرائيليون بعد من حالة الصدمة إلى حالة "ما بعد الصدمة". لكن من الضروري الآن اعتماد استخلاصين استراتيجيين مستمدين من السابع من تشرين الأول/أكتوبر: علينا أن نواصل عملية مساءلة صنّاع القرار، بصورة حادة وواضحة، وخصوصاً عندما يقوم أولئك بطرح أفكار عامة وضبابية، وعلينا أن نحسّن الخلل في فهمنا للحيز المحيط بنا، وخصوصاً من خلال التعلم العميق لكل من اللغة والثقافة. لن تكون نتائج ذلك بالضرورة مثيرة للتفاؤل، لكنها ستجعلنا أصحاب رؤيا أذكى وأكثر دقة إزاء الواقع المعقد في الإقليم.