مراوحة وكآبة، كيف يمكن الخروج منهما
تاريخ المقال
فصول من كتاب دليل اسرائيل
المصدر
- "هذه هي إشكاليات المعركة العسكرية في غزة: منظومة جوية فعاليتها محدودة؛ استخبارات غير دقيقة في عدة مواضيع مركزية، وعلى رأسها نيات العدو وأجهزة السيطرة والتحكم لديه؛ سلاح البر غير جاهز، من عدة نواحٍ، لمواجهة تهديد معروف مسبقاً، وعقيدة قتالية غير عقلانية فيما يتعلق بالربح والخسارة، كانت نتيجتها الأساسية دماراً بيئياً كبيراً جداً، كان له ثمن دولي كبير. وهذه كلها أمور هامشية طبعاً، أمام عدم وجود أهداف سياسية، أدت إلى أن الحملة لم تغيّر الوضع القائم". هذا ما كتبته في سنة 2015 في كتاب بعنوان "الشجاعة إلى الأبد"، يتناول حملة "الجرف الصامد".
- حينها، كان بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة، وبني غانتس رئيساً لهيئة الأركان، أما وزيرا المالية والخارجية فهما اليوم زعيما المعارضة، والذي كان وزيراً للدفاع، هو اليوم، يتحدث كثيراً كمحلل سياسي في الاستوديوهات. وبوصول عدد أيام الحرب في غزة إلى ضعف أيام تلك الحملة، يمكن أن نردد الأقوال نفسها حرفياً - باستثناء أنه في الأيام الأولى للحملة، قام الجيش بما يقوم به كل جيش حديث، محمي ولديه قوة نيران كبيرة (التقدم والسيطرة على أراضٍ) هذا كان مختلفاً؛ أمّا ما يقوم به الجيش منذ شهر، فهو بالضبط ما قام به في حملة "الجرف الصامد". لم يتغير شيء، وكيف سيتغير إذا كان الأشخاص والتفكير هما ذاتهما.
- بعد مئة ويومين، نحن في حالة كآبة ومراوحة. المراوحة سببها أن القتال في غزة مستمر من دون الوصول إلى أي هدف، إنما فقط كيلا يتوقف - على الرغم من أن الجيش، ومَن يرددون أقواله، كما في كل حرب خلال الـ40 عاماً الماضية، يشرحون لكم أنه بعد قليل، بعد استعمال مزيد من القوة، فإن الضوء سيظهر في آخر النفق.
- والأسوأ هو الفشل السياسي: الرفض القاطع لوضع الحرب برمتها في إطار مواجهة إقليمية في مقابل محور المقاومة الإيراني، والتي لا يمكن تحقيق الانتصار فيها إلا في إطار الشراكة مع دول المنطقة، وبقيادة الولايات المتحدة، وبمشاركة السلطة الفلسطينية. هذا الرفض لا يمنعنا فقط من تحقيق أهداف القتال في غزة، بل يجرّنا بشكل حتمي إلى معركة كبيرة في لبنان، ستكون نتائجها هدامة، وستكون فيها إسرائيل وحيدة أمام المحور لأننا، ببساطة، لن نستطيع الانتصار.
- أمّا الكآبة، فإنها نابعة من قضية الرهائن. رفضُ إسرائيل الاستمرار في الصفقة السابقة، بتبرير أنه "إذا وافقنا على إعادة الرجال قبل النساء، فنتنازل عن النساء"، من دون أن ندرك أن الحديث هنا لا يدور حول مبادئ صفقة تبادُل أسرى، إنما يتعلق بإنقاذ حياة بكل بساطة، فإن هذا يقربنا كل يوم من مأساة غير مسبوقة: ببساطة، لن يعودوا. هناك خطر لأن مصير كثيرين منهم غير معلوم. هذه الخيانة من الدولة للمواطنين الذين تخلت عنهم بشكل لا يُغتفر يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، ستكسر العمود الفقري للميثاق غير المكتوب بينها وبين المواطنين. ومن أجل دولة كهذه، فإن المواطنين في جيش الشعب لن يخرجوا إلى القتال، وليس مهماً عدد المرات التي سيحدثونهم فيها عن الخطر الوجودي.
عندما يتحول الحل إلى مشكلة
- قبل بداية الحملة البرية، كتبت أنها ضرورية، لكن يجب أن يكون من الواضح أنها وحدها لن تؤدي إلى تحقيق أهداف القتال - إزالة التهديد الأمني من طرف "حماس" على سكان إسرائيل، وخلق وضع يضمن عدم نموّها وعودتها، واستعادة الرهائن بسلام، ومعلومات واضحة عن مصير الآخرين. أهداف كهذه لن يتم التوصل إليها قط بمعركة عسكرية فقط. كل مَن لديه بعض المنطق وقليل من المعرفة التاريخية، يعلم ذلك؛ لكن ما قيمة المنطق والمعرفة أمام حسابات السياسة، أزمات السياسيين ورغبتهم في الخلاص من أكبر فشل في تاريخ الدولة، والذي كانوا مسؤولين عنه.
- في حروب هذه الأيام، احتلال الأراضي والسيطرة عليها وقتاً طويلاً يتحول من حلّ إلى مشكلة، كما حدث مع إسرائيل في لبنان، ومع الأميركيين في العراق؛ يجب أن نعلم متى علينا تغيير طريقة عملنا، والخروج من معظم الأراضي، والتجهيز في خطوط دفاعية، ومن هناك، ندير حرب استنزاف مستمرة تمنع العدو من العودة والنمو- وبالمناسبة، خط الدفاع الذي كان علينا السيطرة عليه هو محور فيلاديلفي، ولم نسيطر عليه بسبب التفكير المغلق وعدم وجود إبداع لدى القيادة العسكرية، والآن، لن نسيطر عليه بسبب معارضة المصريين، وبسبب خطر تدفّق مليون لاجئ من رفح إلى الأراضي المصرية.
- على إسرائيل أن تقاتل، بحسب قدراتها ونقاط قوتها، وألّا تدير حملة عسكرية، كأن لديها كل الوقت والأدوات والأشخاص في العالم، وفجأة تكتشف أن لا شيء من هذا موجود: الوقت لا يعمل لمصلحتنا، إذا استمرينا بالطريقة نفسها، والذخيرة تنفذ، ونحن نعتمد على الولايات المتحدة لتأمين قطع الغيار الضرورية للقتال، وجنود الاحتياط ليسوا مخزوناً لا ينتهي، إنما هم مورد يُستنفذ - وخصوصاً عندما تكون القيادة منغلقة على نفسها، والمستوى السياسي لا يفهم، ويتعامل معهم كأنهم أمر مفروغ منه.
- والأهم من هذا كله، التحرك العسكري الصحيح، هو جزء من صورة سياسية شاملة هي ليست "اليوم التالي"، بل هدف الحرب الذي على كل عمل أن يقود إليه. لكن لا يوجد في إسرائيل تفكير كهذا. حسابات نتنياهو السياسية، والأزمات التي تواجه المنظومات الأمنية، وانصياع الإعلام، وعدم وجود بديل فكري، يضمن عدم تحقق ذلك.
إذاً، ما الذي يمكن القيام به للخروج من الوحل
- الدفع في اتجاه صفقة تحرير رهائن، وضمنها صفقة كبيرة تتضمن وقف القتال وتحرير الرهائن، وتؤدي إلى وقف إطلاق نار لبضعة أشهر.
- إذا كانت هذه الصفقة غير ممكنة، فيجب الآن التمركز في خطوط الدفاع داخل القطاع، وإقامة الإطار الأمني لليوم التالي، ووقف الملاحقة المكلفة والمليئة بالتضحيات وراء فتحات الأنفاق، والعمل بحسب معلومات استخباراتية لمنع "حماس" من إعادة بناء نفسها، وملاحقة قياداتها.
- في مقابل صفقة تبادُل رهائن "صغيرة" (كبار السن، المرضى، النساء والمصابون - جميعهم أحياء طبعاً - ومعلومات عن مصير القتلى)، نسمح بعودة السكان المضبوط إلى شمال القطاع، والبدء هناك بعملية إعادة إعمار عبر جهات دولية وقيادات محلية وموظفين تابعين للسلطة الفلسطينية، وضمان أن تكون الولايات المتحدة والشركاء الإقليميون جزءاً، بعد إيضاح نية إسرائيل أنها ستبحث مع السلطة الفلسطينية الموحدة التي ستسيطر بعد تغييرات في الضفة وإعادة الاستقرار في غزة، في حل الدولتين.
- الخطوتان الثانية والثالثة ستخلقان شرعية أمام المصريين لبناء نظام أمني يتضمن قوات إسرائيلية على الحدود بين القطاع ومصر، لمنع إعادة تسليح "حماس".
- العمل إلى جانب الولايات المتحدة والشركاء في المنطقة (السعودية، والإمارات، ومصر) لبناء تحالُف يكون له وزن ضد محور المقاومة الذي تقوده إيران، ويدفع إلى انسحاب حزب الله نحو الشمال وكبح تهديده لإسرائيل. وفي المقابل، التجهز لمعركة في لبنان بالظروف الملائمة لنا.
- إذا تم التوصل إلى صفقة كبيرة، كما يشير البند الأول، فيجب تجهيز الأرضية السياسية والعسكرية لحملة سريعة تدفع الخطوط التي تم تفصيلها هنا أمنياً (منطقة عازلة، فيلاديلفي) بعد بضعة أشهر، ثم الاستمرار في صيد القيادات والقدرات التابعة لـ"حماس" بشكل مستمر، حتى الوصول إلى هزيمتها.
- الذهاب إلى انتخابات إسرائيلية، في مركزها البدائل الحقيقية لمستقبلنا هنا.
- البدء بمسار ترميم الاقتصاد والجيش والمجتمع، وتقوية مكانتنا الدولية.
- لم يتأخر الوقت للخروج من حالة المراوحة والكآبة وتحقيق أهداف الحرب. من أجل ذلك، يجب أولاً الاعتراف أين فشلنا وأين علقنا، وأن نتوقف عن ضرب الرأس بالحائط والبدء بالتفكير بشكل مختلف.