العواقب البيئية للحرب في قطاع غزة قد تجعله مكاناً غير صالح للعيش
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- ليس من السهل احتساب كميات ركام المنازل التي ستظل في غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها. إن كل متر مربع من شقة مهدّمة يخلّف تقريباً طناً ونصف طن من الركام. وفي قطاع غزة، جرى هدم، أو نسف، أو إصابة، ما لا يقل عن 50% من المنازل بأضرار شاملة، وهو ما يعني، في أقل التقديرات، وجود 25 مليون طن من الركام. وذلك من دون أن نحتسب ملايين إضافية من الركام الناتجة من تدمير الشوارع، والشبكات، والبنى التحتية، والمباني العامة. وبغرض التقدير: تنتج إسرائيل بأسرها نحو 7 ملايين طن من نفايات البناء في السنة الواحدة. ليس من المهم متى وكيف ستنتهي هذه الحرب، فعلى مدار السنوات والعقود المقبلة، سيضطر الغزيون إلى مواجهة تحدٍ هائل: ما الذي يمكنهم فعله بهذه الكميات الهائلة من حطام الجدران، والأسمنت، والحديد، والحجارة؟
- إن مشكلة الركام ونفايات البناء ليست سوى مشكلة واحدة من عدد من المشاكل البيئية الهائلة التي تتسبب بها الحرب في غزة، ولست متأكداً مما إذا كانت هذه أكبر المشاكل. يحاول خبراء، على مدار الأسابيع الماضية، تقدير الآثار البيئية للحرب في غزة، وفهم ما إذا كان في الإمكان إعادة تأهيل الحياة والطبيعة في القطاع. كثير من المعطيات لا يزال غير واضح، على غرار: كم قنبلة بالضبط تم إسقاطها على غزة؟ ما هو حجم الأضرار في شبكات الصرف الصحي؟ ما هي النتائج التي سيتسبب بها مشروع ضخ مياه البحر إلى الأنفاق، ما هو الأذى الذي أصاب المياه الجوفية؟ وغيرها من أسئلة. بيْد أن كثيرين من الخبراء متفقون منذ الآن على أن الحرب أسقطت على رأس القطاع وسكانه كارثة بيئية ومناخية لم يشهدها إقليمنا قط منذ بداية التاريخ. أمس الأول، استجابت إينغر أندرسن، المديرة العامة لبرامج الأمم المتحدة البيئية، لطلب الحكومة الفلسطينية بشأن دراسة الوضع البيئي في قطاع غزة.
- يشير الخبراء إلى بعض المشاكل البيئية الرئيسية التي خلّفتها الحرب: الدمار الهائل في المباني، والذي يخلق مشكلة خطِرة تتمثل في الركام ونفايات البناء، وتلوّث الأرض والهواء والماء؛ أضرار الشبكة الكهربائية، وشبكات الصرف الصحي والمياه؛ تلوث المياه السطحية والجوفية نتيجة التسربات الناجمة عن تدمير شبكة الصرف الصحي؛ مخاطر تملّح المياه الجوفية نتيجة اختلاطها بماء البحر؛ تلوث الأرض بالمعادن والمواد الكيميائية والمتفجرات؛ والضرر الواسع الذي أصاب عدداً كبيراً من المناطق الزراعية، سواء بسبب قصف سلاح الجو، أو بسبب شق طرقات للآليات العسكرية الإسرائيلية عبر الحقول الزراعية، منذ بداية الهجوم البري.
- "لقد رأينا نتائج فترات من التدمير نتيجة النزاع في غزة، والمشاكل البيئية والصحية المتواصلة المرتبطة بالحصار، لكن ما يجري الآن هو مستوى آخر جديد تماماً من الدمار"، بحسب تصريح داغ وير، مدير
- "The Conflict and Environment Observatory" لصحيفة "هآرتس"، هذا المرصد هو معهد بحثي بريطاني متخصص في الأضرار البيئية في مناطق القتال، وأضاف: "إن الأضرار الكارثية التي أصابت المناطق المبنية (المباني السكنية والتجارية والصناعية) أدت إلى تناثُر مخلفات البناء وغيرها من مواد قد تكون خطِرة. سيؤدي الأمر إلى تلوث الهواء والتربة، والمياه السطحية، وسيؤدي أيضاً إلى تلوث المياه الجوفية. إن جودة الهواء تتأثر أيضاً بالحرائق الكبيرة، كما أن المناطق الزراعية تم تدميرها بفعل الحفر وتحرُّك الآليات العسكرية".
- يقول وير إن أقرب المقارنات في العصر الحديث للأضرار اللاحقة بغزة، هي الأضرار التي ألحقها الروس بمدينة ماريوبول في أوكرانيا، وتدمير مدينة الموصل في العراق خلال المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومع ذلك، فإن المساحة الضيقة للقطاع تفرض تحديات خطِرة فيما يتعلق بمسألة إعادة تأهيله بيئياً. فمثلاً، من أجل معالجة الكمية الهائلة من الركام ونفايات البناء، هناك حاجة إلى توفير مساحات واسعة. هناك أيضاً مشكلة أُخرى، معروفة من حروب سابقة، هي أنه سيتم العثور داخل المباني المهدمة على عدد غير قليل من القذائف التي لم تنفجر، والمعالجة غير الحذرة لهذه المباني قد تؤدي إلى سقوط كثير من القتلى الإضافيين. يؤكد وير وغيره من الخبراء أن المباني المدمرة لا تحتوي فقط على الحديد والأسمنت والحجارة، بل على كثير من المواد الخطِرة الأُخرى مثل الأسبست المعروف أنه مادة مسرطنة، والألياف الزجاجية التي تتسبب بأمراض القصبة الهوائية.
- د. غاليا ليمور - سغيف، المحاضِرة في كلية سامي شمعون للهندسة، والمتخصصة في الأبحاث المتعلقة بالأزمات البيئية، تشير إلى مشكلة إضافية قد تتسبب بها الحرب أيضاً. "لقد تضررت شبكات المياه وشبكات الصرف الصحي، وستتدفق المياه العادمة في الشوارع، ويحتوي الركام على مواد يؤدي تفكُّكها إلى تلوث التربة والهواء، كما أن الركام سيصبح مكاناً لاختباء الحشرات الضارة التي ستبدأ بالتكاثر. لقد انهارت منظومة جمع القمامة في القطاع، وهذا يعني أن سكانه سيضطرون إلى العيش إلى جانب أكوام النفايات. ما الذي يعنيه العيش في مكان كهذا؟ هل يمكن أصلاً بناء منزل في مثل هذه الأماكن؟ أو حضانة أطفال؟ هل يمكن العودة إلى زراعة المحاصيل الزراعية في ظل كل هذه الملوثات، في تربة مليئة بالسموم؟ يمكننا ربما أن نقارن هذا بمدن تم قصفها في أوكرانيا، أو كوارث الزلازل، حيث تُدمّر بلدة كاملة بلمح البصر".
- تفيد د. ليمور سغيف أنه من المعروف أن الوجود العسكري يتسبب بتلوث شديد بسبب استخدام الوقود والمواد الكيميائية، "هذه الملوثات تتطلب تعاقُب أجيال لتطهيرها، والنفايات لا تنحصر في ركام المباني (الذي من شأنه وحده أن يكون مسبباً شديداً للتلوث)، بل إنها تمتد لتشمل البنى التحتية والشبكات من جميع الأنواع: الشوارع، الأنابيب، أعمدة الكهرباء، المرافق، وسائل المواصلات، مجمعات النفايات، وغيرها، كما ينبغي التحدث أيضاً عن تدمير المشهدية الطبيعية، والمواقع الأثرية، والشوارع، والمباني العامة، والمرافق الدينية، وكل ما يرتبط بالحياة البشرية والمجتمعية، إلى جانب تدمير الموائل الطبيعية للحيوانات والنباتات، التي لا تنجح دائماً في التعافي من التدمير". إلى جانب ذلك، تذكّر المحاضِرة بأن مَن لا يشعر بالرحمة تجاه سكان غزة، عليه أن يقلق من الحالة البيئية هناك: "البيئة لا تعترف بالحدود المحيطة بغزة، فالملوثات تتسرب، وجدول حانون (شمال القطاع) يتدفق من القطاع إلى إسرائيل، حاملاً معه أنواعاً مختلفة من النفايات والملوثات، كما أن التلوث المتسرب إلى البحر سيتدفق بسهولة إلى السواحل الإسرائيلية، كما حدث قبل أعوام، عندما توقف مرفق تحلية المياه في عسقلان [جنوب فلسطين المحتلة] نتيجة التلوث الناجم عن تسرّب مياه المجاري في غزة.
- يبدو أن معهد "وادي عربة"، وهو معهد بحثي وتعليمي بيئي يؤهل الطلاب الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين، وغيرهم من الجنسيات الأُخرى، هو واحد من المؤسسات الإسرائيلية الوحيدة التي حافظت على علاقاتها في غزة حتى في أثناء الحرب. يعمل المعهد منذ أعوام طويلة مع منظمات غزية، ويساعد في مجالات البيئة والطاقة. يقول د. طارق أبو حامد، مدير المعهد، ومن سكان شرقي القدس، الذي يبدو أنه واحد من القلائل الذين لديهم الجرأة على التفكير في "اليوم التالي" : "نلتقي عبر تطبيق زوم، وقد انحصرت المحادثات في البداية في الحديث عن أحوالهم وكيفية تكيُّفهم، وبعدها، بدأنا بالتفكير معاً، ببطء، في اليوم التالي".
- يقول أبو حامد: "في المدى القصير، علينا الاهتمام بالمياه، والكهرباء، ومعالجة مياه الصرف الصحي. يجب أن يتم كل شيء عبر تقنيات لا تعتمد على الكهرباء لأن إعادة تأهيل شبكة الكهرباء ستستغرق أعواماً"، ويشرح بشأن التقنيات القائمة: المشكلة الآنية المتعلقة بالمياه يمكن حلّها بواسطة المنظومة الخاصة بشركة "ووتر جن" الإسرائيلية، التي طورت تقنية تسحب المياه من الرطوبة في الهواء. "هناك مرافق تنتج نحو 5 آلاف ليتر من المياه في اليوم الواحد، وهذا قد يحلّ مشكلة مياه الشرب لخمسة آلاف إنسان، أمّا فيما يتعلق بالكهرباء، فمن الواضح أنه علينا الاعتماد على الطاقة الشمسية، لدينا مَن يمكنه فعل ذلك".
- ويشير أبو حامد إلى أنه حتى موعد نشوب الحرب، كانت غزة تُعتبر إمبراطورية من إمبراطوريات الطاقة الشمسية. فبحسب التقديرات، كان يتم إنتاج نحو 25% من الكهرباء في غزة بواسطة الطاقة الشمسية، مقارنةً بـ 10% في إسرائيل. لقد تعلم سكان غزة الاعتماد على الألواح الشمسية، التي كانت موثوقاً بها وثابتة أكثر كثيراً من شبكة الكهرباء المتقطعة، وهذا قبل القصف الإسرائيلي. وعشية الحرب، انتهى في خان يونس العمل على بناء حقل الطاقة الشمسية الأكبر في القطاع، والذي كان من المفترض أن ينتج 3 ميغاوات من الكهرباء، ومن شأنه سدّ حاجات جميع المستشفيات في جنوب القطاع. وبحسب أبو حامد، تم تدمير الحقل بأسره في القصف. وعلى مدار السنوات المقبلة، سيضطر الغزيون إلى الاعتماد أكثر على الشمس. ومن أجل معالجة مسألة ركام المباني في غزة، ستبرز الحاجة إلى إنشاء مصانع تقوم بإعادة تدوير الركام وتحويله إلى مواد بناء. لقد توجّه طاقم معهد "وادي عربة" إلى خبراء أتراك لكي يستفيد من خبرتهم في التخلص من ركام المباني التي انهارت في الزلزال الذي أصاب تركيا.
- هناك أيضاً حلّ محلي لمعالجة مياه الصرف الصحي، في نظام يُطلق عليه اسم "لاغونا"، يعتمد على التحلل البيولوجي للملوثات الموجودة في مياه الصرف الصحي. لكن، وكما هي الحال في أنظمة المياه والطاقة، فإن وجود هذه المنظومة مشروط بوقف القتال قبل كل شيء، وإدخال المعدات إلى القطاع. "ما يقلقني ليس التقنيات، بل الجيل الجديد المولود في غزة، فكيف يمكننا إقناع هذا الجيل بإجراء حوار مع جيرانه؟ من الناحية التقنية، هناك حاجة إلى إعادة بناء كل شيء من جديد، ونحن نتحاور مع شركائنا بشأن التخطيط الحديث والمستدام، لكن هناك الصدمة في الطرف الثاني، ليس من ناحية ما يحدث للغزيين الآن، بل أيضاً من ناحية استعداد الجيل المقبل للتحاور مع الإسرائيليين. في مثل هذه الحالة، يمكن لـ"حماس" مضاعفة قوتها، وحتى الذين كانوا يكرهون "حماس" في الماضي، فهم الآن يكرهون إسرائيل أكثر، يجب علينا ألّا ننسى ذلك. لقد حدث ما حدث في 7/10 بسبب الفصل القائم بين إسرائيل والغزيين، وعلى إسرائيل بذل جهود لإعادة علاقاتها بهم".