الخصومات الفلسطينية الداخلية تدفع إسرائيل إلى حُكم عسكري موقت في القطاع
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بشأن تكليف محمد مصطفى رئاسة الحكومة الجديدة، بعد قبوله استقالة محمد اشتية، لم يكن مفاجئاً. وفي الواقع، محمد مصطفى هو نسخة مشابهة عن محمد اشتية، وعملياً، عباس استبدل أحد المقربين منه بمقرب آخر. وينتمي مصطفى إلى قيادة الخارج التي جاءت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة بعد اتفاقات أوسلو...
  • أثار تعيين مصطفى غضب "حماس" وسائر التنظيمات الفلسطينية، وخصوصاً جبهة الرفض. لكن المواجهة التي اندلعت بين "حماس" و"فتح" غطت على البقية. معارضة "حماس" تكليف مصطفى، بحجة أنها خطوة غير ديمقراطية تستبعد "حماس" وقطاع غزة، أدت إلى ردة فعل حادة، وبصورة خاصة من "فتح" التي اتهمت "حماس" بأنها ذراع إيرانية، وبأنها تسببت بأفظع نكبة للشعب الفلسطيني منذ سنة 1948.
  • الخصومة بين "فتح" و"حماس"، التي جذورها أيديولوجية بصورة أساسية، تتمحور حول المنافسة على قيادة النضال الوطني الفلسطيني. في هذه الأيام، ما تعتبره "حماس" حرب تحرير وطنية تاريخية تذكّر بانتصار صلاح الدين على الصليبيين، تعتبره "فتح" كارثة وطنية أخطر من نكبة 1948. تبذل "حماس" جهدها من أجل المحافظة على سيطرتها على قطاع غزة وتعزيزها وتقوية قبضتها، حتى في المناطق التي احتلها الجيش الإسرائيلي في شمال القطاع، بهدف إقناع السكان المحليين بأنها لا تزال البديل، حتى في "اليوم التالي للحرب".
  • في مثل هذه الظروف، من الصعب حدوث مصالحة بين "حماس" و"فتح".  ومن جديد، عادت النغمة المعروفة منذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007، وكيف تعثرت جهود العديد من الوسطاء الإقليميين في ساعة الحقيقة. في الوقت الحالي، ينتظر عباس إعلاناً أحادي الجانب من "حماس" بشأن التنازل عن السلطة في القطاع، والموافقة على دخول حكومة وحدة وطنية من التكنوقراط الفلسطينيين (يريد أبو مازن تأليفها) إلى قطاع غزة من دون شروط. بكلام آخر، هو يصرّ على عدم إعطاء "حماس" مقابلاً لقاء هجوم 7 أكتوبر والحرب، ولا يريد السماح لها بالبقاء كطرف سياسي في الساحة الفلسطينية. في هذا الوقت، فإن الأزمة الناشئة والفجوة بين الطرفين، لهما أهمية كبيرة بسبب سعي الإدارة الأميركية والسلطة الفلسطينية، وبدعم جزئي من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، لإعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وأن تكون هي العنوان المدني والأمني لعملية إعادة الإعمار.
  • في هذا السياق، يرِد ذكر ماجد فرج، رئيس الاستخبارات العامة والمستشار الأمني المقرب من عباس، بصفته القادر على قيادة هذه المهمة. يتمتع فرج بثقة أبو مازن وثقة الإدارة الأميركية و"تقدير" الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهو أيضاً "عدو شرس" لـ"حماس" التي حاولت اغتياله بسبب مطاردته أنصارها في مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وفي هذا السياق، طُرحت فكرة تجنيد نحو 7000 عنصر من "فتح" من القطاع وتأهيلهم عسكرياً بواسطة قوات أميركية في الأردن، قبل عودتهم إلى القطاع كقوة أمنية وشرطية بقيادة ماجد فرج. لكن ليس من الواضح ما الذي يقنع مؤيدي عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بأن هذه الفكرة ممكنة التحقيق، في الوقت الذي يعاني عباس والسلطة جرّاء تراجُع كبير للشرعية الجماهيرية، وهناك أغلبية تطالب باستقالة عباس منذ فترة، بالإضافة إلى الفجوة العميقة الجديدة الناشئة من جديد بين "حماس" و"فتح".
  • صحيح أن قادة "حماس" أعلنوا أنهم غير معنيين بالعودة إلى السيطرة على قطاع غزة، وأنهم مستعدون لأن تدير السلطة الفلسطينية الشؤون الأمنية والمدنية، لكنهم طلبوا التنسيق معهم بشأن طريقة السيطرة. وأعلن حسام بدران، عضو المكتب السياسي في "حماس" والمسؤول عن العلاقة مع "فتح"، في مؤتمر عقدته التنظيمات الفلسطينية في موسكو (26 شباط/فبراير 2024)، أن "حماس" توافق على تأليف حكومة تكنوقراط تستمد صلاحياتها من منظمة التحرير الفلسطينية. كما أعلنت "حماس" استعدادها للدخول إلى منظمة التحرير الفلسطينية من دون شروط مسبقة، وقبول حل منظمة التحرير السياسي للنزاع مع إسرائيل، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. لكن هذه التصريحات لا تعني أن "حماس" مستعدة لتسليم سلاحها وإخضاع قواتها العسكرية ضمن إطار الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية.
  • يجب التعامل مع هذا الكلام كالتعامل مع الوثيقة السياسية التي نشرها خالد مشعل، وهو من الرموز البراغماتية في "حماس"، في أيار/مايو 2017، والتي لا تخفف من الرؤيا والهدف النهائي، بل تقدم طريقاً بديلة لتحقيق هذا الهدف، في ضوء ضغوط الساعة. في نظر "حماس"، المحافظة على قوتها العسكرية هي الأساس، وشرط العمل وفق نموذج حزب الله، بحيث تدير السلطة الفلسطينية الشؤون المدنية في القطاع، بيْد أن السيطرة الفعلية تبقى في يد مسلحي "حماس". ومن أجل التشديد على إصرارهم على منع أي محاولة لخلق بديل محلي من "حماس"، لم تتردد عناصر الحركة "عن قتل مختار عشيرة دغمش، للاشتباه في أنه أبدى استعداده للتعاون في توزيع المساعدات الإنسانية للقطاع، كما اتُّهم بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي".
  • علاوةً على ذلك، فإن تعيين محمد مصطفى رئيساً للحكومة هو عملية تعامٍ عن كل ما له علاقة بالإصلاحات الأساسية في السلطة الفلسطينية. عباس والمحيطون به ليسوا معنيين بالإصلاحات، وبالتأكيد، هم لا يريدون انتخابات يمكن أن تبعدهم عن مواقع السيطرة والنفوذ...
  • حتى ماجد فرج الذي يُعتبر مهنياً وموضوعياً وبعيداً عن العمل السياسي نسبياً، فهو غير مؤهل لمواجهة التحديات الأمنية في المناطق الواقعة تحت مسؤولية السلطة. ومن دون عمليات الجيش الإسرائيلي في قلب المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين، لكانت "حماس" استكملت سيطرتها على السلطة. من هنا، ليس من الواضح كيف لشخص لم ينجح في مهمة أقل تعقيداً في الضفة الغربية، أن ينجح في ظروف أكثر تعقيداً في قطاع غزة، في تحقيق وترسيخ السيطرة الأمنية والمدنية، وخصوصاً في هذه الأيام، على خلفية الحرب وتداعياتها.
  • ليس هناك أي طرف عربي، أو دولي، أو إسرائيلي، يمكن أن يوافق على الاستثمار في إعادة إعمار القطاع ما دامت "حماس" هي الطرف المسيطر على المنطقة. ومعنى ذلك استمرار المواجهة بين "حماس" و"فتح". ومع بقاء "حماس" الكيان الحاكم للقطاع، عملياً ونظرياً، حتى بعد التوصل إلى وقف إطلاق للنار في الحرب وإطلاق المخطوفين الإسرائيليين الذين في حيازتها، فإن عمليات المساعدة وإعادة الإعمار المدنية في غزة لا يمكن أن تنطلق.
  • هذا الواقع يدفع بإسرائيل نحو إقامة حُكم عسكري موقت في قطاع غزة، بسبب عدم وجود خيار معقول آخر. "حماس" ليست خياراً، وعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع هي حلم بعيد المنال، ولا توجد آلية دولية مستعدة للعمل. وفي ظل غياب جهة للسيطرة الفعلية على الأرض، لن تتمكن إسرائيل من التأكد من وصول المساعدات الإنسانية إلى وجهتها. وفي غياب بديل من سلطة "حماس"، سيواصل السكان المحليون الإيمان بإمكان بقائها، كما أن صمود سلطة "حماس وزعامتها سيستمد التشجيع من الضغط الذي يُمارَس على إسرائيل، ومن قدرتها على ترميم سيطرتها المدنية، وحتى العسكرية، في المناطق التي احتلتها إسرائيل (مثل مستشفى الشفاء والعملية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي منذ 18 آذار/مارس)، الأمر الذي يؤدي، بدوره، إلى التشدد في المفاوضات من أجل إطلاق المخطوفين ووقف الحرب.
  • بناءً على ذلك، يتعين على إسرائيل في هذه المرحلة إعلان إقامة حُكم عسكري لمدة محددة زمنياً في شمال القطاع، حيث عدد السكان أقل نسبياً، والبنى التحتية لـ"حماس" ضعفت، وكذلك في مناطق أُخرى، بحسب تطور الظروف، وعليها وضع ثلاثة أهداف أمامها:
  1. تأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى وجهتها، ليس بواسطة "حماس"، بل من خلال طريق آمنة، لمنع الفوضى ووقوع مصابين في الجانب الفلسطيني.
  2.  إشارة واضحة إلى زعامة "حماس" والسكان الفلسطينيين بأن "حماس" ليست خياراً، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف التأييد الشعبي للحركة.
  3.  إعداد الميدان والظروف لدخول قوة متعددة المهمات، دولية أو إقليمية أو مزيج منهما، ونقل صلاحيات إدارة المنطقة والسكان والبدء بعملية إعادة الإعمار، إلى هذه القوة التي ستتحمل أيضاً مسؤولية تدريب وإعداد إدارة محلية على طريق الاستقلال الفلسطيني في إدارة القطاع.