يمكن تأجيل اجتياح رفح، لكن إسرائيل تريد تسديد ضربة أخيرة
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • إن دخول الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة الشرقية من رفح واحتلال معبرها الحدودي، ما هو سوى تذكير بالسلوك الذي اتّسم به عدد من الحروب الماضية. وسأطلق على هذا السلوك اسم "منظومة التشويش البافلوفية" [نسبة إلى نظرية بافلوف]: يتخذ الجيش والمستوى السياسي الإسرائيليان إجراءات مثيرة للجدل، هدفها تكتيكي، لكن إسقاطاتها استراتيجية، وينتج منها تراكُم المصاعب أمام التوصل إلى إنهاء الحرب. في بعض الأحيان، يتم تنفيذ الأمر عن سبق إصرار، بهدف تشويش وإحباط أيّ نتائج لا ترغب فيها الحكومة، أو الجيش، وفي أحيان أُخرى، تمارَس هذه التكتيكات لا لشيء، إلا بحكم العادة "البافلوفية" المتمثلة في الرد غير الملجوم، في المطلق تقريباً.
  • كل مرة تقترب فيها حرب، أو حملة عسكرية واسعة، من نهايتها، يتصرف هؤلاء بمنطق "دعونا نسدّد ضربة واحدة أخيرة". هذا ما جرى حين خرق الجيش الإسرائيلي اتفاقية وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973، ووقع في الفخ في مدينة السويس. لقد اتخذ مجلس الأمن قراراً بشأن وقف إطلاق النار بتاريخ 22/10/1973، لكن وزير الدفاع، حينها، موشيه دايان أصدر أوامره إلى الفرقة 162 بمواصلة القتال، بهدف احتلال السويس، وتضييق الخناق على الجيش المصري الثالث، وتحسين التموضع على خط المواجهة، على الرغم من موافقة الحكومة الإسرائيلية على قرار مجلس الأمن، بحجة أن الجيش المصري خرق القرار. لقد انتهت المعركة بإخفاق الجيش الإسرائيلي في أغلبية نقاط الاشتباك في المدينة، وأدت إلى تكبيدنا خسائر جسيمة، وهو ما يمكن وصفه اليوم بأنه أحد أسوأ الإخفاقات الإسرائيلية على تلك الجبهة. لقد سقط في معركة السويس 80 جندياً إسرائيلياً، وأصيب 120 بجروح.
  • تم اتّباع إجراء مماثل في نهاية حرب لبنان الثانية، ففي آب/أغسطس 2006، أصدر مجلس الأمن القرار 1701، القاضي بإنهاء الحرب. لكن رئيس الحكومة، آنذاك، إيهود أولمرت ووزير دفاعه عمير بيرتس وقادة الجيش (حين كان دان حالوتس في منصب رئيس هيئة الأركان) أصدروا أوامرهم للفرقة 162 بمواصلة القتال من أجل تحسين مواقع تموضُعها، وتقريب خط الجبهة نحو نهر الليطاني. لقد سقط سبعة جنود في تلك المعركة، وأصيب العشرات.
  • في الحرب الدائرة في غزة، تنفّذ القيادات العسكرية الإسرائيلية، تحت إمرة رئيس الأركان هرتسي هليفي، وبناءً على توجيهات المستوى السياسي الذي يقف على رأسه نتنياهو ووزير الدفاع غالانت، إجراءات ذات دوافع سياسية ضيقة، وغرور، وتصوُّر زائف للكرامة الوطنية، وهي تؤدي إلى خسائر فادحة. في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2023، صدر قرار بشأن إنهاء وقف إطلاق النار وصفقة التبادل. لقد اتهمت إسرائيل "حماس" بخرق شروط الصفقة، مدّعيةً أنها أطلقت سراح ثمانية أسرى إسرائيليين، بدلاً من عشرة، ولم تزودنا بمعلومات عن شيري بيبس وطفليها كفير وأريئيل، بعكس التزامها. وتعترف أغلبية رؤساء المؤسسة الأمنية والجيش الآن، وبمفعول رجعي، بأن ما حدث كان سوء تفاهم أدى إلى بقاء الأسرى ليفنوا في أسر "حماس". كما صرّح الوزير غادي أيزنكوت، الذي عارض القرار الحكومي، بأنه كان يجب الاستمرار في الصفقة، ولو بدافع الالتزام بأن "مَن أنقذ روحاً فكأنما أَحيا الناس جميعاً".
  • هذا الأسبوع أيضاً، اتّسم الرد الإسرائيلي بـ"البافلوفية". إذ صُعقت الحكومة جرّاء ردّ "حماس" الذي حظيَ بدعم الإدارة الأميركية والنظام المصري، ومفاده أن الحركة توافق على مخطط إطلاق سراح مخطوفين على مراحل، في مقابل وقف إطلاق نار يستمر بضعة أسابيع، ويتم خلالها بلورة صيغة لوقف القتال أيضاً. لقد رفضت إسرائيل المقترح، مدّعيةً أن "حماس" تحاول الخداع وإظهار ما لم يتضمنه المقترح، بهدف تأجيل دخول إسرائيل إلى رفح. حتى لو كان هذا صحيحاً، فما الذي كانت ستخسره إسرائيل لو انتظرت؟ فمنذ أكثر من ثلاثة أشهر، تهدد القيادتان السياسية والعسكرية باقتحام رفح من أجل القضاء على سلطة "حماس". وانتظار بضعة أيام، أو أسبوع كحد أقصى، من أجل استغلال الصفقة، ولو كانت فرص تحقيق ذلك غير كبيرة، لن يؤثر في إسرائيل.
  • بناءً عليه، يتضح أن قرار اقتحام رفح (للمفارقة، بواسطة الفرقة 162 مجدداً)، أدى إلى القضاء على فرصة التوصل إلى عملية سياسية. منذ أشهر طويلة، يتحدث نتنياهو عن رفح كما لو كانت نقطة أرخميدس التي ستحسم الحرب. تذكّرنا تصريحاته الحالية بتصريحاته في سنة 1996، عندما أصدر أمره بفتح الأنفاق تحت المسجد الأقصى، الأمر الذي أدى إلى اشتباكات عنيفة وخطِرة على مدار ثلاثة أيام، ومقتل 17 جندياً إسرائيلياً، و100 فلسطيني. لقد ادّعى نتنياهو، آنذاك، أن زيارة الأنفاق توفّر لشعب إسرائيل إمكان لمس "الصخرة التي تأسس عليها الوجود اليهودي". واتضح آنذاك، كما يتضح اليوم، أن مقولاته ليست سوى ديماغوجية تهدف إلى إرضاء قاعدته الانتخابية. فلا نتنياهو، ولا يحيى السنوار معنيان، لاعتبارات شخصية، بالتوصل إلى تسوية تؤدي إلى إنهاء الحرب، وهو أمر قد يؤدي إلى إزاحتهما عن الحكم.
  • تختلف اعتبارات غالانت وهليفي عن اعتبارات نتنياهو. وهما مقتنعان بأن احتلال رفح وضرب آلاف "المخربين" بمثابة خطوة كاسرة للتوازن، ستقضي على قدرة "حماس" على الصمود، وستؤدي إلى تحرير المخطوفين. هذا ليس سوى وهم. وعلاوةً على ذلك، وفي تناقُض مع اللهجة التصعيدية، فإن دخول الجيش إلى رفح لن يكون سوى خطوة محدودة، ورمزية إلى أقصى حد، بهدف الاستهلاك الداخلي والعلاقات العامة. لقد تم رفع العلم الإسرائيلي على معبر رفح، كما لو كان الجنود الإسرائيليون يخوضون الحرب العالمية الثانية، كما فعل الجنود الأميركيون عندما رفعوا علمهم في جزيرة "آيو جيما" في نهاية الحرب. لن يوفر الاستيلاء على رفح ما تطلق عليه النخب هنا اسم "صورة انتصار"، فهذه الخطوة تدل على اليأس، وتشهد على فقدان القدرة والرغبة في الحسم الاستراتيجي بشأن إنهاء الحرب، وإطلاق سراح جميع المخطوفين الذين ظلوا في قيد الحياة، واستلام الجثامين. فضلاً عن أن التوصل إلى إنهاء القتال في غزة سيؤدي أيضاً إلى اندلاع سلسلة من ردات الفعل التي تؤدي إلى وقف القتال على الحدود اللبنانية، وعودة المهجرين إلى منازلهم في بلدات الجنوب والشمال.