بعد 10 أعوام، عملية "الجرف الصامد" تتكرر بشكل أسوأ كثيراً
المصدر
قناة N12

موقع إخباري يومي يضم، إلى جانب الأخبار، تعليقات يكتبها عدد من المحللين من الشخصيات الأمنية السابقة، ومن المعلّقين المعروفين.

المؤلف
  • اليوم الاثنين 8 تموز/يوليو، يصادف ذكرى مرور 10 أعوام على بداية عملية "الجرف الصامد" ["العصف المأكول"، وفقاً لحركة "حماس"، و"البنيان المرصوص"، وفقاً للجهاد الإسلامي]، العملية العسكرية الأطول لإسرائيل بين جولات القتال في غزة منذ الانفصال عن القطاع وحتى الحرب الحالية. أرقام "الجرف الصامد"، 51 يوماً من القتال ومقتل 70 جندياً و5 مدنيين، تبدو لا شيء، مقارنةً بعملية "السيوف الحديدية" [طوفان الأقصى]، لكن عندما نفحص، عن قُرب، الأحداث التي أدت إلى هذه العملية وما جرى خلالها، يمكن أن نفهم  ما يجري هنا خلال الأشهر التسعة الأخيرة. إن عبارة "مَن لا يتعلم من التاريخ، فإنه يحكم على نفسه بأن يعيد التاريخ نفسه"، تنطبق كثيراً على إسرائيل، مع الأسف (وهذه ليست المرة الأولى)، لم نتعلم من التاريخ،  ولم نتعلم من أن ما حدث على نطاق صغير، يمكن أن يحدث على نطاق أكبر بعشرات المرات.
  • وعلى الرغم من الدلائل الواضحة على نشوب جولة عنف طويلة، عاجلاً أم آجلاً،  فإن دولة إسرائيل والجيش وصلا إلى عملية "الجرف الصامد" من دون استعداد. لم يكن هناك سياسة بشأن غزة، باستثناء "الستاتيكو" وعدم اتخاذ القرارات. جاء في تقرير مراقب الدولة بشأن أداء المجلس الوزاري المصغر خلال عملية "الجرف الصامد" أن المجلس اجتمع خلال سنة ونصف السنة مرة واحدة، تحديداً لمناقشة السياسة إزاء غزة. أنا أعرف هذا النقاش، لم يحدث خلاله أيّ شيء. والمجلس الوزاري المصغر لنتنياهو كان من الذهب الصافي، حينها، مقارنةً بالمجلس الوزاري اليوم.
  • أمّا بالنسبة إلى الاستخبارات، فكل شيء تكرر بصورة مخيفة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر: المعرفة الوثيقة بأن "حماس" تخطط لشنّ هجوم على منطقة كرم أبو سالم، تُرجمت إلى حالة تأهّب ونشر قوات في هذه المنطقة فقط، على الرغم من أنه كان واضحاً أن "حماس" لديها عدد كبير من الأنفاق. لم يؤخذ في الحسبان، بوضوح، ما نعرفه، وما لا نعرفه: لم يكن لدينا استخبارات دقيقة بشأن عدد الأنفاق التي تصل إلى الأراضي الإسرائيلية، وفتحات الخروج منها، كذلك الوضع الإشكالي للمعلومات المتعلقة بنيات القيادة العسكرية لـ"حماس" والتوجيهات التي وجّهتها إلى الميدان. وعلى الرغم من التحذيرات من استعدادات "حماس" للقيام بهجوم كبير وتأثيره المحتمل في الضغط الذي تمارسه الحركة في الضفة الغربية، فإن أغلبية قوات الجيش الإسرائيلي، بينها ألوية سلاح المشاة، كانت منتشرة في أنحاء الضفة الغربية، وتبحث عن الشبان الإسرائيليين الثلاثة الذين عُثر عليهم مقتولين.
  • كما أن بقية الجيش أيضاً لم تكن مستعدة للمهمة التي طُلبت منها في النهاية. وعلى الرغم من تعريف نتنياهو للأنفاق بأنها "تهديد استراتيجي"، فإن هذا لم يُترجم في الميدان. عملياً، أُرسل الجيش إلى مهمة أقل إثارةً للشكوك (تدمير الأنفاق التي عادت من جديد، بعد أشهر من العملية). ومن دون استخبارات نوعية ووسائل قتال مناسبة (التي جرى شراء معظمها خلال العملية من السوق المدنية)، ومن دون عقيدة قتالية (لم يكن في الجيش الإسرائيلي كله نموذج عن نفق في غزة للتدرب عليه)، ومن دون إعداد وحدات للمهمة. ولم يتضمن تخطيط الجيش خداعاً، أو جدولاً زمنياً حقيقياً (لدى بدء العملية البرية، قال وزير الدفاع بوغي يعالون إنها ستستغرق 48 ساعة، وعملياً، استمرت 17 يوماً تقريباً، ولم يكن هناك هدف حقيقي لتغيير الوضع.
  • قبل التصعيد، لم تكن أهداف القتال واضحة، وكذلك ماهية صورة نهايته المطلوبة. ومثل اليوم، لم يكن هناك رؤيا بشأن "اليوم الآخر". وانتقلت المنظومة من قرار عملاني محلي إلى آخر، والفارق الوحيد، حينها، أن كل ما كانت تريده إسرائيل هو انتهاء القتال، لقد وافقت على وقف النار أكثر من مرة، وكانت تقديرات الاستخبارات العسكرية أن العدو المهزوم سيقبل الاتفاق ويوقف القتال، وفقط "حماس" رفضت، لأنها لم تفهم التلميح، بينما اليوم، فما يريده رئيس الحكومة وما يفعله، هو أن تستمر الحرب.
  • إذا كان كل ما قيل، حتى الآن، يبدو معروفاً، هذا لأنه لم يتغير شيء كثير منذ ذلك الحين: لا يوجد حوار حقيقي بين المستويَين السياسي والعسكري في إسرائيل، بل تبادُل للكلام، بحيث لا يتحدى أيّ طرف الطرف الآخر. من الخارج، يبدو المشهد مختلفاً: قبل عشرة أعوام، لم يخطر في بال أحد مهاجمة رئيس هيئة الأركان في "الكابينيت"، والتلميح إلى نظريات المؤامرة، أو التساؤل: لماذا يدعي إيهود باراك إلى المحاضرات في الجيش؟ بيْد أن الوضع إشكالي فعلاً، ففي الحوار بين المستويَين، لا توجد نية حقيقية بشأن فحص الواقع والتوصل إلى قرارات مناسبة، لكن رغبة كل طرف من الأطراف في المحافظة على نفسه لم تتغير.
  • ظهر خلال عملية "الجرف الصامد" العرض المشهور الذي أعده الجيش وقدمه (وقام المستوى السياسي بتسريبه)، ومفاده أن احتلال غزة سيكلف مئات القتلى، وهو ما سمح لنتنياهو بأن يُظهر أن الجيش لم يسمح له بالانتصار، وسمح للجيش بعدم قبول مهمة لم يكن يرغب في تنفيذها فعلاً. هذه المرة، الوضع أخطر كثيراً: يتطلع نتنياهو، لأسباب تتعلق ببقائه السياسي والشخصي، إلى إطالة أمد القتال أطول مدة ممكنة؛ والجيش يعلم بأن الوقت لا يعمل لمصلحة "النصر المطلق" الذي يُعتبر وهماً، وهذا ما يتيح له المماطلة، فمن دون ذلك، سيحين وقت الحساب على تقصيرات 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو يحاول نشر أساطير عن نجاح الضغط العسكري في وسائل الإعلام، من خلال الناطقين بلسانه.
  • هناك أمر آخر لم يتغير هو الروايات التي نرويها لأنفسنا عن النصر، حتى لو لم يكن مطلقاً. في عملية "الجرف الصامد" كان هناك ظاهرة القصف العنيف وتدمير المنازل (الأبراج في غزة)، وطبعاً، اغتيال مسؤولين كبار. كل هذا كان يجب أن يؤدي إلى تركيع "حماس" وإجبارها على إنهاء القتال. اليوم، يدّعي عدد غير قليل أنه في سنة 2014، زُرعت في ذهن السنوار (الذي لم يكن زعيماً لـ"حماس" آنذاك) الفكرة التي أدت إلى 7 أكتوبر.
  • وطبعاً، كان هناك غياب كامل لتحرك سياسي يغيّر الصورة فعلاً. تسيبي ليفني التي كانت وزيرة للعدل، آنذاك، تروي اليوم أن كل الأفكار المطروحة حالياً، والمتعلقة بتدخل عربي ودولي كبديل من حُكم "حماس"، طُرحت في ذلك الوقت، لكن نتنياهو رفضها.
  • في نيسان/أبريل، صدر كتابي "الشجاعة للانتصار"، الذي خصصت جزءاً منه لما تعلمته كعضو في لجنة الخارجية والأمن خلال التحقيق في "الجرف الصامد". قلت في مقابلة أجرتها معي صحيفة "هآرتس"، إن الأمر الأشد خطورة هو "عدم وجود عملية سياسة مكملة، ومن دونها، ستبقى العملية العسكرية من دون إنجازات حقيقية. رفضُ نتنياهو المبادرة إلى تحرك إقليمي يحقق مصلحة إسرائيل في كبح "حماس" ونزع السلاح من غزة، في مقابل إعادة إعمارها، سيخلق وضعاً يعيدنا إلى نقطة البداية: ستستعيد "حماس" قوتها. وإذا لم يحدث تغيير، فإن موعد الجولة المقبلة لا يعدو كونه  مسألة وقت، وستكون أخطر كثيراً من عملية "الجرف الصامد."
  • القصة ليست رؤيا تشاؤمية تحققت بالكامل في تشرين الأول/أكتوبر 2023، بل القصة أنه من الواضح أننا  لم نتعلم شيئاً منذ ذلك الوقت.
 

المزيد ضمن العدد