هل هي مجرد ممثلة؟ أم شخصية مختلَقة من الذكاء الاصطناعي؟ كيف تطورالهوس بشأن نوعة أرغماني

فصول من كتاب دليل اسرائيل

المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • كما هي الحال في المواقف الشديدة التطرف، فإن الوضع الكابوسي الذي استيقظت عليه إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لم يكن سوى تأكيد وتكثيف الخصائص الفردية والجماعية التي كانت موجودة أصلاً في السابق. فمَن كان يعيش في قلق صار أكثر قلقاً، ومَن كان يشعر بالغضب، صار أكثر غضباً، ومَن كان يعيش موقناً أنه مخدوع، بات يشعر بأنه مخدوع أكثر. ومن قلب هذا الواقع كلّه، وُلدت النظريات المتعلقة بنوعة أرغماني. [المجندة الإسرائيلية التي تم إنقاذها من الأسر في مخيم النصيرات].
  • بعد "المذبحة" ، تبنّى الإسرائيليون، غالباً في سرّهم، وفي بعض الأحيان بصورة مسموعة أكثر، مختطفاً، أو مختطفة. ومستقبلاً، قد يتم إجراء أبحاث تتعلق بالإسقاطات النفسية الاجتماعية لأحداث السابع من تشرين الأول / أكتوبر بصورة أعمق. حتى الآن، يمكننا أن نخمّن أن تبنّي كل إسرائيلي وإسرائيلية وجهاً محدداً من صور المختطفين هو أمر لا يمكن فهمه، لكن نستطيع أن نفهم أن تبنّي وجه واحد، من أصل255 وجهاً لمواطنين تم اختطافهم من منازلهم، يلبّي حاجة عاطفية ما: مثل السيطرةعلى وضع لا يمكن التحكم فيه أصلاً، وهو مجرد إسقاط للآمال على شخص فرد، في زمن يصعب على المرء التشبث بالأمل، وهو محاولة للعثور على معنى في واقع لم يعد من الواضح ما إذا بقي له معنى أصلاً.
  • خلال الأيام المعدودة التي تلت عملية الإنقاذ، واصلت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحديث عن أرغماني بصورة مركزة، فاصلة إياها عن المختطفين الثلاثة الآخرين الذين عادوا معها. لقد اهتم الخطاب العام بمظهر نوعة بصورة تكاد تكون "فيتشية". لقد أومضت الشاشات الكبرى في الميادين والصغرى في أيدي المواطنين، بصورتها، وذهل الناس من الفرح عندما عُرضت صورتها وهي تشرب عبوة من الكولا، وترددت الصرخات الفرحة والضاحكة في أنحاء البلد "إنها تقوم بدعاية لشركة كوكاكولا". وكان مظهر أرغماني دفع بالممثلة [الفلسطينية] لمى طاطور إلى كتابة تعليقها "الشرير": "أهكذا تبدو فتاة كانت مختطفة مدة تسعة أشهر؟ إن حاجبيها مرتبان أكثر من حاجبيّ! انظروا إلى بشرتها! انظروا إلى شعرها! انظروا إلى تقليم أظافرها! ما هذا؟؟ أمن أجل هذه، يجب قتل أطفال أبرياء ونساء بريئات؟"
  • خلال الأسبوع الماضي، تم نشر مقطع فيديو لأرغماني وهي تتحدث، للمرة الأولى، وتقدم شكرها لمن وقفوا إلى جانب عائلتها خلال الأيام الصعبة [عبر التظاهر في الشوارع]، كما وجهت أرغماني شكرها إلى أرنون زمورة، الذي ضحى بحياته في عملية إنقاذها. وسرعان ما بدأت تتردد أصوات مختلفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصوات سامة، وهي أصوات رددتها أيضاً وسائل الإعلام، تبدي استياءها من أن "أرغماني لا تشبه نفسها"، وأن صوتها لا يبدو كما تخيلناه، وقد شككت هذه الأصوات في صحة وجود أرغماني نفسها. وانتشرت نظريات مختلفة، تبدأ من الاتهام بأن الشخصية التي بُثت كلمتها في الإعلام، ليست سوى شخصية تم اختلاقها بواسطة الذكاء الاصطناعي، ووصولاً إلى أن التي ظهرت في وسائل الإعلام لم تكن سوى ممثلة حلّت محل أرغماني. لكن، في هوامش الإنترنت، (كما تعلمنا في السابق، لا ينبغي الاستخفاف بما يقال في هوامش الإنترنت). فإن عملية تحويل أرغماني إلى "فيتيش"، قبل إطلاق سراحها، قد وصلت إلى أعلى مراحلها قبل تحريرها، ووصلت إلى حد نظرية المؤامرة [بعد خيبة الأمل بتصريحها]. عملياً،يتضح أن صعود أرغماني نحو صورتها المتخيلة، كانت في سياق الـ"Standom" (وهومصطلح شعبي بدأ بالظهور، ويتركب من كلمتَي "Fandom" التي تعني الإعجاب الشديد، واسم "Stan" الذي يمثل شخصية المعجب المهووس الخطِر). يصف هذا التعبير حالة يصل فيها الإعجاب إلى حد محاولة المساس بالشخصية- موضع الإعجاب، التي لا تنجح في الحفاظ على صورتها كما تخيلها  المُعجب المهووس.
  • إن الموقف من أرغماني هو، نوعاً ما، خليط من ثلاثة أمور رأينا أمثلة لها في المجتمع الإسرائيلي قبل ذلك. مثلاً، هناك خيبة الأمل العنيفة إزاء المختطفين الذين تم إطلاق سراحهم، وعبّروا عن انتقادهم للحكومة، أو الانتقادات الموجهة ضد المختطفة المفرج عنها يوخفاد ليفشيتس، حين لوّحت إلى أحد آسريها بيدها مودعةً. لقد رأينا في السابق مظاهر انتشار نظريات، مفادها أن أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لم تكن سوى خيانة ارتكبها الجيش، أو الساسة، أو الناشطون اليساريون. كما أننا متّعنا أعيننا برؤية إعلاميين وفنانين وساسة لم يعبّروا في الأيام العادية عن أيّ اهتمام يُذكر بحقوق المرأة، أو بالعنف الجنسي الموجّه ضدها، لكن هؤلاء، منذ اللحظة التي تحول فيها الجسد إلى مشكلة قومية [الإشاعات التي تتحدث عن انتهاك ضد نساء إسرائيليات في هجوم طوفان الأقصى]، لم يتوقف هؤلاء عن اعتبار أجساد النساء المختطفات ميداناً لممارسة أجنداتهم.
  • في ظاهرة إسقاط نظريات المؤامرة على شخصية أرغماني، واعتبارها مجرد شخصية مختلَقة، تجمّع داخل تقاطع الدوائر كلٌّ من المعجبين المهووسين الإسرائيليين وناشري نظريات المؤامرة والقوميين. إن قواسم الشبه بين جميع هذه المجموعات ظهرت في السابق، ولو بصورة جزئية. فالسمات الشخصانية للمعجبين إلى حد الهوس تتمثل في الهوس القهري، والشعور بالقرب من الشخصيات موضع الإعجاب، وردّات الفعل العنيفة، عندما ترفض هذه الشخصيات القيام بدورها، لتظهر بدور "ناكرة الجميل". إن الذين يؤمنون بمثل هذه النظريات يتّسمون بالبارانويا، وانعدام الثقة، وخيبة الأمل بالمنظومات، وتجاهُل المعلومات التي لا تعزز افتراضاتهم السابقة، والنرجسية، والشعور بالفردانية، وبأنهم وحدهم يرون الحقيقة، في حين أن الآخرين عالقون في تفكير القطيع. وعلى الهوامش القومية، يسود شعور بالتفوق على الذين لا ينتمون إلى المجموعة، والافتراض أن ما هو مرغوب فيه في أثناء استهلاك المعلومات، ليس صافياً، أو موثّقاً جيداً. يظهر ذلك مثلاً من خلال قنوات التليغرام الخاصة بهؤلاء، أو عمليات نشرهم مقاطع الفيديو، أو تعامُلهم مع أجساد الأفراد على أنها أعضاء من جسد الأمة.
  • إن نتائج البحث الحالية عبر محرك البحث غوغل، الذي يكمل بصورة تلقائية الكلمات "نوعة أرغماني" في خانة البحث، تسلط الضوء على ما يشغل الذين يحتلون وسط تقاطُع الدوائر هذا، وما يشغلهم بدأ يتردد في قلب النظرية المحرجة التي تقول إن أرغماني قد تم استبدالها، وأن نوعة أرغماني الحقيقية تتماهى مع ما يتخيلونه هم عنها. وهذا ترتيب لنتائج توقعات محرك غوغل، بحسب أولوية ظهورها، حتى أول أمس: "نوعة أرغماني، فيديو جديد"، "نوعة أرغماني حامل"، "هل نوعة أرغماني يهودية"، "هل لا تزال نوعة أرغماني مختطفة"، "هل ماتت نوعة أرغماني"، "نوعة أرغماني تتحدث [في سياق البحث عن مقاطع لأرغماني قبل اختطافها، لمقارنة طريقتها في الحديث بالفيديو الذي انتشر بعد اختطافها]"
  • تتردد في أوساط هذه الفئات مقولات إن أرغماني لا تبدو كما توقعوا، وأن صوتها لم يبدُ كما تخيلوه، فأرغماني الحقيقية، الثلاثية الأبعاد،لا تتسق مع صورتها على الملصق الذي تخيلوه، الملصق الذي تظهر فيه الفتاة دائمة الابتسامة، والتي تعلقوا بها على مدار ثمانية أشهر، كما أنه ليس من الواضح أن تصريحاتها تتسق مع رغباتهم. أما هواة نظرية المؤامرة، فهم يعزون خيبة أملهم إلى قوة كبرى ومنظمة "أولئك لا يريدونكم أن تعرفوا الحقيقة"، وهي جملة باتت تتكرر بصورة هائلة، والافتراضات الضمنية، التي تكاد تبلغ حد كونها من المسلّمات، أن هناك "هم" [أي مجموعة مختلفة عن المجموع الإسرائيلي، تحاول السيطرة على الاعتقادات الإسرائيلية]، وأن هناك عمليات إخفاء للمعلومات. كما أن النظريات التي تتحدث عن استبدال أرغماني، واستخدام أشباه لها، مستنبطة بصورة مباشرة من أوهام استيلاء الكائنات الفضائية على البشر، أو من نظرية "الاستبدال العظيم" التي أطلقها رينو كامي، والتي تتحدث عن خشية اليمين الأبيض القومي الفرنسي من عمليات استبدال منظمة للكاثوليك البيض بسكان غير أوروبيين.
  • أبدى القوميون، الذين يتعاملون مع الجسد الخاص على أنه امتداد فعلي للجسد القومي - الشاعري، قلقهم من تدنيس الجسد اليهودي، وبالذات من تخصيبه. فإلى جانب أن هؤلاء لا يحبون الأشكال الغريبة في أي حال، وأن مظهر أرغماني [التي لا تبدو إسرائيلية] يضعها في موضع خطر التنصل منها، إذا ما دعت الحاجة. وعلى الرغم من أن أرغماني ووالدها التقيا رئيس الحكومة الذي تكبد عناء زيارة الفتاة- الرمز، لكن توجيه أرغماني في كلمتها المصورة الشكر للمتظاهرين الذين خرجوا دفاعاً عن المختطفين، قد جعل مكانتها تتدهور بصورة سريعة، وفق مقياس المحبة القومية.
  • اليوم، أرغماني ليست سوى مجرد مثال. ويمكننا أن نفترض أنه ما دامت الثقة بالمنظومات تتعاظم، وما دام هناك أفراد عاديون يتحولون في وقت الأزمة إلى أبطال موقتين تتعلق بهم الأنظار، فإن المواطنين العاديين الذين يظهرون في أوقات الأزمات، ويسعون، لسبب ما، لتبنّي رمز ما، مخلّص ما، قائد ما، سيتكاثرون. وإلى جانبهم، ستظهر أيضاً دوائر المعجبين بالأبطال، ثم المخذولين منهم، ثم الغاضبين عليهم، ثم المتنصلين منهم، وصولاً إلى قيام تلك الفئة بخلق وساوس قهرية ونظريات مؤامرة تجاههم. وسنرى عدداً كبيراً من هؤلاء في الفترة المقبلة.
 

المزيد ضمن العدد