تحرُّك استراتيجي من إدارة بايدن يجب أن يبدأ بصفقة تبادُل الأسرى، وينتهي بالنصر في الانتخابات
تاريخ المقال
المصدر
- المفاوضات المتعلقة بالصفقة بشأن تحرير الرهائن وإنهاء الحرب في غزة، والتي بدأت يوم الخميس في العاصمة القطرية الدوحة، ليست سوى جزء من خطوة استراتيجية كبيرة تتخذها إدارة بايدن، والتي تهدف إلى إنهاء الحرب في الشرق الأوسط، قبل أن تبدأ المرحلة الأخيرة والحاسمة من الحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة.
- بالتأكيد، يمثل تحرير الرهائن أولوية قصوى في هذا الجهد الأميركي، ليس فقط بسبب اهتمام الرئيس بايدن ونائبته كمالا هاريس بمصير الأسرى، بل أيضاً لأن الصفقة الهادفة إلى تحريرهم تُعتبر مفتاحاً لإنهاء الحرب المتعددة الجبهات في الشرق الأوسط، وإعادة الاستقرار إلى المنطقة. فالهدف هنا يتمثل في تلافي اندلاع حرب إقليمية شاملة لا يرغب فيها أيّ طرف من الأطراف.
- منذ البداية، منذ تموز/يوليو الماضي، شرعت الإدارة الأميركية في تحضيراتها لإطلاق خطوة محدودة أكثر كثيراً مما يجري الآن، وفي صلبها صفقة تهدف إلى إنهاء القتال في غزة وإطلاق سراح المختطفين. في ذلك الحين أيضاً، تمثّل هدف الإدارة الديمقراطية في تحقيق إنجاز دبلوماسي وإنساني مثير للانتباه في الشرق الأوسط أمام الناخبين، بما يقنعهم بدعم ترشيح هاريس وتفضيلها على دونالد ترامب. هناك هدف آخر تمثّل في التركيز على الوقت المتبقي لموعد الانتخابات، لتقديم العون لأوكرانيا، التي لا تزال تُجابه الاجتياح الروسي، والتي تواجه مصاعب في تحقيق ذلك.
- لكن ما بدأ كمبادرة إلى التوصل إلى صفقة تبادُل أسرى، توسّع إلى فرصة استراتيجية إقليمية في 31 تموز/ يوليو، عندما تم اغتيال فؤاد شُكر، رئيس هيئة أركان حزب الله الفعلي، في بيروت على يد إسرائيل - ثم اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، بعد ساعات قليلة، في وسط طهران. لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن اغتيال هنية، لكن الإيرانيين أكدوا أن إسرائيل هي المسؤولة، ولم يعترض أحد على هذا التأكيد.
- أثارت هذه الاغتيالات غضباً في واشنطن، وعبّر بايدن عن انزعاجه علناً، وبصورة خاصة بسبب الخشية من أن تؤدي الاغتيالات إلى ردة فعل انتقامية من إيران وحزب الله، ثم رد إسرائيلي على هذا الانتقام، وهو ما قد يؤدي إلى تبادُل للضربات وتطوُّر الأمر إلى حرب شاملة في المنطقة، تشارك فيها جميع أذرع إيران، وتجرّ الولايات المتحدة إليها. وقد يتحول هذا السيناريو إلى "كارثة انتخابية" للإدارة الديمقراطية التي تدخل الآن في المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية الرئاسية.
- لكن يبدو أن واشنطن رأت في هذه الأحداث فرصة لتحويل المحنة إلى فرصة، تتمثل في خطوة استراتيجية لتحويل الأوضاع لمصلحتها. فإدارة بايدن تهدف إلى تحقيق عدة أهداف من خلال هذا التحرك؛ أولها تحرير الأسرى، وثانيها إنهاء القتال في غزة، وثالثها إطلاق جهد إنساني واسع لمصلحة سكان القطاع، وأخيراً وربما الأهم، تجنّب اندلاع حرب إقليمية واسعة في الشرق الأوسط.
- إن تحليلاً دقيقاً للأحداث، يقودنا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن تدرك أن هذه الأهداف الطموحة تتطلب استخدام أدوات ضغط جديدة وأساليب لم تُستخدم من ذي قبل. علاوةً على ذلك، صار من الواضح أن إدارة بايدن ترى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعيم "حماس" يحيى السنوار هما العقبتان الرئيسيتان أمام التوصل إلى الصفقة، في حين يُعتبر الحرس الثوري الإيراني والمرشد الأعلى علي خامنئي العقبة الرئيسية التي تعترض جهود تجنُّب الحرب الإقليمية. في حين يفترض كلٌّ من واشنطن وتل أبيب أن نصر الله، على الرغم من تمتُّعه باستقلالية التحرك ومكانة خاصة بين أذرع إيران، فإنه ملزم بالانصياع للأوامر الواضحة التي ستأتي من طهران، حتى لو لم يكن موافقاً عليها.
- المشكلة الأساسية، من وجهة نظر واشنطن، تتمثل في أنها غير قادرة على التحاور مع السنوار، أو ممارسة ضغوط مباشرة عليه، أو محاولة إغوائه بخطوات بعيدة المدى. هذه المهمة تجعل إدارة بايدن، مرغمةً على تركها في يد القطريين الذين تجندوا لهذه المهمة في الماضي بحماسة أكبر كثيراً مما جرى في المرات الماضية. نحن لا نعلم بما وعد الأميركيون قطر، وأيّ ضغوط مارستها قطر على السنوار، لكن يمكن الافتراض أن الأمر يتعلق بما سيحدث بعد انتهاء الحرب، ولعلها وعود تحتاج إليها "حماس" عموماً، والسنوار خصوصاً (إذا بقي في قيد الحياة) لكي تتمكن من البقاء.
- من الواضح تماماً أن قطر قامت بخطوات لم تقُم بها من ذي قبل، وهذا هو السبب الرئيسي للتفاؤل الذي يعبّر عنه المفاوضون في الدوحة في نهاية هذا الأسبوع. وبالإضافة إلى قطر، لقد مارست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على مصر لإيجاد حل مقبول من جميع الأطراف لقضية محور فيلادلفيا ومعبر رفح .
- أمّا فيما يخص نتنياهو، فإن إدارة بايدن تدرك جيداً الوضع الجديد في إسرائيل، حيث يجد رئيس الوزراء نفسه عالقاً بين مطرقة تهديدات سموتريتش وبن غفير بالانسحاب من الحكومة، وبالتالي تفكيكها، وبين السندان القوي المتمثل في المنظومة الأمنية وأغلبية الرأي العام في إسرائيل، الذي يريد التوصل إلى صفقة لتحرير الأسرى، ويدرك أنه إذا لم تتم هذه الصفقة، فإن عدد الأسرى الأحياء الذين يمكن إنقاذهم، سيكون قليلاً جداً.
- منظومة الضغوط والإغراءات التي يواجهها نتنياهو شملت مقابلات مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، أجراها مسؤولون أميركيون، قبل مغادرة الوفد إلى الدوحة، ومحادثات شخصية دارت بين نتنياهو وبايدن، والتي كانت في بعض الأحيان، بألطف توصيف ممكن لها، "غير مريحة،" فضلاً عن تصريحات لمصادر أميركية مسؤولة رفضت الكشف عن هويتها، تم تسريبها إلى الصحافة الأميركية، وتفيد بأنه لم يعد لدى إسرائيل ما تحققه عسكرياً في قطاع غزة، وإن لم يتنازل نتنياهو عن مطالبه، ستفقد إسرائيل ما تبقى من شرعيتها على الساحة الدولية.
- لم توفر الولايات المتحدة جهداً أيضاً فيما يتعلق بالإغراءات المقدمة لنتنياهو وإسرائيل على مدار الأيام العشرة الماضية، إذ أُزيلت، فجأة، جميع العقبات التي كانت تعرقل شحنات أسلحة وموافقات على الدعم العسكري الأميركي إلى إسرائيل، وبدأت الطائرات الضخمة بالهبوط بوتيرة طائرتين يومياً في مطار "نفاطيم" [الواقع في صحراء النقب]، بالإضافة إلى السفن التي، إمّا في طريقها إلى إسرائيل، وإمّا رست في الموانئ الإسرائيلية. علاوةً على ذلك، عززت الولايات المتحدة قواتها البحرية والجوية المنتشرة في الشرق الأوسط، وهو ما يسمح، ليس فقط بإحباط أيّ هجوم انتقامي إيراني، بل أيضاً بتمكين القوات الأميركية من مهاجمة أذرع إيران، إذا ما اندلعت حرب إقليمية، هذه القوات الموجودة في الإقليم أساساً، بهدف حماية الجنود والمدنيين الأميركيين المنتشرين بالآلاف في أنحاء الشرق الأوسط.
- هذه القوة، التي تفوق كثيراً ما نشرته الولايات المتحدة في المنطقة، قبل الهجوم الإيراني في نيسان/أبريل الماضي، تهدف إلى تحقيق هدف مزدوج: ردع إيران عن توجيه ضربة تجبر إسرائيل على الرد بضربة مؤلمة تفتح الباب أمام حرب إقليمية، وربما حتى إقناع إيران بعدم توجيه الضربة على الإطلاق، أو تأجيلها إلى وقت غير معلوم.
- الرسالة الكامنة خلف إرسال هذه القوة الكبيرة إلى الشرق الأوسط كانت موجهة بصورة أساسية إلى الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان وأنصاره. إن وضع إيران الاقتصادي اليوم سيئ للغاية، وفاز بزشكيان بالانتخابات، بعد أن وعد بتحقيق ما فشل فيه جميع أسلافه/ إخراج إيران من المأزق الاقتصادي والعزلة الدولية اللذين تشهدهما.
- ربما لم يكن بزشكيان بحاجة إلى هذه القوة البحرية والجوية الضخمة بقيادة "سنتكوم"، التي تموضعت في نصف دائرة، تبدأ من مضيق هرمز، مروراً بالبحر الأحمر، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط. لكن التهديد العسكري الأميركي، والطبيعة الهجومية لهذه القوة، والتهديد بالعقوبات الاقتصادية الذي أضافه بايدن إلى التهديد العسكري الفعلي، أمور كلها ساعدت بزشكيان على إقناع منافسيه، وخصومه في الحرس الثوري، بل حتى خامنئي، بعدم التعجل في تنفيذ الضربة الانتقامية.
- لكن الجهود الأميركية المبذولة ضد إيران لم تتوقف عند هذا الحد. لقد قامت إدارة بايدن بتشغيل جميع حلفاء الولايات المتحدة من أجل ممارسة الضغط على كلٍّ من إيران ونصر الله في لبنان من أجل تأجيل الضربة الانتقامية إلى ما بعد اتضاح نتائج المفاوضات بين إسرائيل و"حماس". وفي هذا الشأن، يستغل الأميركيون، بذكاء شديد، مصلحة كلٍّ من إيران وحزب الله في عدم التورط في حرب شاملة في الشرق الأوسط الآن. هناك أمر آخر هو أن إيران، حالها في ذلك كحال الأميركيين والإسرائيليين، تعرف تماماً أن السنوار والغزيين يأملون بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، ولهذا الغرض، تواصل إسرائيل الضغط على القطاع، بصورة مقصودة الآن، وهو ما يجعل الوضع ميؤوساً منه أكثر، يوماً بعد يوم. السنوار يهتم بهذا الأمر، وكذلك، فإن قادة "حماس" في الدوحة على علم بما يحدث، ربما أكثر من السنوار نفسه، وهم يوصلون هذه الرسالة للإيرانيين، المعنيين الآن بالحفاظ على بقاء "حماس"، كي لا يفقدوا "وكيلاً" مهماً من منظومة الحلقة النارية التي أحاطوا إسرائيل بها.
انتظار إيران وحزب الله، وتأجيل الضربة، والخلافات
- هناك مصلحة واضحة في وقف إطلاق النار لدى كلٍّ من إيران ونصر الله، فهو ما سيمكّنهم من النزول عن الشجرة التي علقوا عليها في 8 تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما سيقود بالتالي إلى تجنُّب حرب إقليمية لا تريدها إيران، أو لبنان، مع منح "حماس" فرصة في البقاء ومواصلة مقاومتها ضد إسرائيل. لقد قررت إدارة بايدن، بحنكة، استغلال هذا التشابك من المصالح وتحويل إيران إلى شريكة في الجهود المبذولة لتحقيق الصفقة، وهو ما لم يحدث حتى الآن. ولقد جرى تكليف رئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لإبداء حسن نية إزاء خامنئي، وقام آل ثاني بإحاطة نظيره الإيراني بزشكيان، عدة مرات خلال الأسبوع الماضي، بشأن التقدم في المفاوضات، مع هدف واضح يتمثل في إيصال الرسالة إلى المرشد الأعلى خامنئي بما يضمن تحويله إلى شريك هادئ وفعّال في المحادثات التي تهدف إلى إنهاء الحرب في غزة ومنع اندلاع حرب إقليمية في الشرق الأوسط.
- لدى إيران طرقها الخاصة لتوضيح ما تريده لكلٍّ من وفد "حماس"والسنوار، لذلك، يمكن القول إن المفاوضات الحالية التي تدور، ظاهرياً، حول تحرير الأسرى وإنهاء القتال في غزة، تشمل على الأقل شريكاً خفياً واحداً، هو إيران، وربما حتى حزب الله أيضاً. والدليل على ذلك هو أن كلاً منهما بلّغ الأميركيين، وفقاً للمعلومات الواردة من واشنطن، أنهما سيؤجلان الضربة الانتقامية ضد إسرائيل إلى أن تتضح نتيجة الصفقة، أو يتبين أن فرص تحقيقها انتهت.
بايدن: الآن، بتنا قريبين من التوصل إلى صفقة أكثر من أيّ وقت مضى. تمنّوا لنا النجاح
- في هذا السياق، من المهم أن نشير إلى أن إيران وحزب الله لا "يقدمان معروفاً" للأميركيين والقطريين. ومن المرجح جداً أن نصر الله يسعى لتنسيق ضربة انتقامية مشتركة ومتزامنة من إيران وحزب الله، لأن الحزب يرغب في إجبار الجيش الإسرائيلي على توزيع ضربته الانتقامية بين إيران وحزب الله، وهو ما يعني أن لبنان وحزب الله لن يضطرا إلى تحمُّل هول الضربة الكاملة التي يمكن أن يوجهها الجيش الإسرائيلي ضدهما، عبر الجو والبر والبحر. إذ إن سلاح الجو الإسرائيلي سيضطر، على الأقل، إلى توزيع جهوده، وهذا أمر شديد الأهمية بالنسبة إلى نصر الله.
- من جهة أُخرى، يبدو أن الإيرانيين ليسوا على عجلة من أمرهم بأن يكونوا هم الذين يوجهون الضربة الأولى إلى إسرائيل، ربما لأسباب مشابهة، وربما لأنهم يرغبون في ترك الباب مفتوحاً لتجنّب الضربة الصاروخية والطائرات المسيّرة بشكل نهائي، وتحقيق أهدافهم من خلال استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، أو بطرق أُخرى. وفي جميع الأحوال، إيران ليست مُلزمة بالانتقام لمقتل إسماعيل هنية بقدر ما يعتبر نصر الله نفسه مُلزماً بالانتقام لمقتل فؤاد شُكر. ويمكن الافتراض أن الاتفاق بين حزب الله وإيران سيتمثل في هيئة ضربات منسقة بالتسلسل، إذ يبدأ الحزب أولاً، ثم تليه إيران، مع أن ردة الفعل الإيرانية قد تكون مشابهة لما قامت به في نيسان / أبريل الماضي...
- أمّا بالنسبة إلى نتنياهو، فمن المتوقع أن يصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القدس لإجراء حوار شخصي معه، وضاغط عليه، وربما يجري ذلك يوم الأحد أو الإثنين المقبلَين. يتمثل الهدف من هذا الحوار في إقناع رئيس الوزراء بإبداء مزيد من المرونة وتحمّل المخاطرة السياسية من أجل تحقيق الهدف الأكبر. ومن المرجح أن يوضح بلينكن لنتنياهو أن التحرك الأميركي الكبير، الذي قد ينهي الصراع في الشمال مع حزب الله، يمثل مصلحة حيوية لدولة إسرائيل، تماماً كما يمثل مصلحة حيوية لإدارة بايدن - هاريس.
- هذه المفاوضات الجارية بشأن صفقة الأسرى وإنهاء القتال، التي قد تحدد مآلات الأمور، ستستمر خلال الأسبوع المقبل، وربما ما بعد ذلك. لكن يبدو الآن أن التحرك الاستراتيجي الأميركي، الذي يستفيد من مصالح جميع الأطراف، ويستخدم جميع أدوات الضغط والإغراء الممكنة، يملك فرصاً جيدة في النجاح.