آن الأوان لترسيم الحدود، فالأمر يمثل حاجة إسرائيلية ضرورية
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • كان التسلل عبر الحدود، الأسبوع الماضي، والذي قام به مسلحان من الخليل، عبر فجوة في جدار الفصل، بمثابة تذكير بأن جماعات المستوطنين كانت في البداية تعارض استكمال بناء الجدار. لقد خاف هؤلاء من أن يمنع الجدار توسيع البناء الاستيطاني شرقاً، إلى قلب التجمعات السكنية الفلسطينية، وأن يُستخدم كأساس لحدود مستقبلية بيننا وبينهم. لكن الهجوم العنيف الذي وقع في يافا، في وقت كانت إسرائيل تواجه وابلاً من الصواريخ الباليستية الإيرانية، يوضح تدهور الأمن القومي في عدة ساحات، البعيدة منها والقريبة. كما يوضح ثلاث حقائق ترفض الحكومة استيعابها: الأولى، هي أن توفُّر حل تكنولوجي لتهديد الصواريخ من إيران غير كامل، ويتطلب دمج قدرات تحالف إقليمي ودولي.
  • أمّا الحقيقة الثانية، فهي أنه حتى خطر اشتعال الساحة الفلسطينية في الضفة الغربية لا يمكن حلّه بالقوة العسكرية وحدها، بل يحتاج إلى استجابة متكاملة على الصعيدين السياسي والأمني، وأن الرد الأمني الجزئي والفعال - جدار الفصل - وقع ضحية لضغوط المستوطنين.
  • أمّا الحقيقة الثالثة فهي أننا في حين نركز جلّ اهتمامنا منذ فترة طويلة على التهديدات الخارجية، التي يستطيع كلٌّ من الجيش الإسرائيلي ومنظومة الأمن مواجهتها بنجاح ملحوظ، فإن التهديد القريب من الداخل يتم تجاهله. تتجلى هذه المفارقة، المرة تلو الأُخرى، في مبالغات بنيامين نتنياهو، التي يقول فيها إن "إسرائيل تحارب دفاعاً عن حياتها" في غزة ولبنان، وأيضاً في مواجهة الحوثيين والميليشيات الإيرانية في سورية والعراق. إن هذه التصريحات تتناقض مع قوة إسرائيل، وليس فقط في ساحات المعارك. في الوقت الذي يتجاهل نتنياهو حقيقة أن إسرائيل تواجه فعلاً تهديداً وجودياً حرجاً، يقوم هو نفسه بإقصائه إلى هامش جدول الأعمال الوطني.
  • إسرائيل هي الدولة الأقوى في الإقليم، عسكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً (على الرغم من السياسات الاقتصادية المدمرة للحكومة الحالية)، وحتى اجتماعياً. وقد تجلى هذا بوضوح في التحول السريع للقوى المدافعة عن الديمقراطية من حالة الاحتجاج العنيد إلى التعبئة النموذجية لجميع المحتجين، جنباً إلى جنب مع معارضيهم، للدفاع عن الدولة. لكن قوة إسرائيل هذه، لن تتمكن من حماية الرؤية الصهيونية، المتمثلة في إسرائيل الآمنة واليهودية والديمقراطية، في المدى الطويل، من الانهيار والتدهور إلى واقع الدولة الثنائية القومية. وبينما تتجه الأنظار، وبحقّ، نحو تحديات الأمن الخارجي، يستمر العمى بمستوى "مسيرة الغباء"[2]  إزاء ما يحدث بيننا وبين الفلسطينيين.
  • تتهرب إسرائيل من مواجهة هذه القضية منذ 57 عاماً، وطوال العامين الماضيَين، تمكنت العناصر الأكثر تطرفاً في المجتمع الإسرائيلي من القبض على مفاصل قوة وحرية التحرك لتسريع العملية التدميرية المتمثلة في الدمج بين سبعة ملايين يهودي وسبعة ملايين فلسطيني يعيشون بين البحر والنهر.
  • إن هذا الانتقال من حالة "الضم الزاحف" إلى حالة "الضم المتسارع"، والخنق الاقتصادي للسلطة الفلسطينية، وتصاعُد هجمات المستوطنين، وانخراط الشباب الفلسطينيين في التنظيمات "الإرهابية"، هذه العوامل كلها تشكل وصفة مؤكدة للعنف. ومثلما لم يتوقع أحد اندلاع الانتفاضتين، الأولى والثانية، لا من حيث التوقيت ولا الخصائص، فإنه لا يمكن الآن التنبؤ بشكل دقيق بخصائص، أو موعد اندلاع موجة العنف القادمة، لكن من الممكن التأكيد أنها حتمية. علينا أن نتعلم من الخطأ الذي حدث في العقد الماضي، حين قبلت إسرائيل أكثر من 12 جولة من العنف مع "حماس"، إلى أن فاض الكيل. وعلينا ألّا ننتظر تصعيداً مشابهاً في الضفة الغربية.
  • إن الإنجازات التي تحققها المنظومة الأمنية الإسرائيلية في الجبهتين الجنوبية والشمالية، وكذلك في الجبهات البعيدة، توفر لإسرائيل فرصة لتغيير المسار من موقع قوة. وعلى التغيير المأمول أن يشمل المناقشة الوطنية والحسم في الموضوع الذي تهرّبنا منه حتى الآن، والذي من شأنه أن يضمن المصلحة الإسرائيلية في السياق الفلسطيني.
  • لو قررنا تبنّي الموقف المسياني، وحكمنا على أنفسنا بالعيش في ظل واقع دموي مستمر وإحباط المشروع الصهيوني ، فليكن. لكن إذا كان الشعور السائد بأن الأغلبية الساحقة من شعبنا تدرك العواقب المدمرة للضم، فإن الوقت سيأتي لترسيم حدودنا الشرقية، والتوضيح أنه ليس لإسرائيل مطالب إقليمية شرقي هذه الحدود، مع الاستمرار في احتفاظنا بتفوقنا الأمني في الإقليم بأسره، إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق مستقبلي يزيل هذه الحاجة، أو يكرسها، ضمن إجراء متفق عليه.
  • منذ تاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر، تحول الالتزام بحل الدولتين، في العديد من عواصم الإقليم وخارجه، من مجرد كلام إلى ناظم للسياسات. في المقابل، ازدادت المخاوف في إسرائيل من هذا الحل. فإذا كانت إسرائيل في الماضي اتكأت على مقولة "عدم وجود شريك"،[3]  فقد أُضيفت إلى الأمر الآن المخاوف من تكرار أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر في المناطق الإسرائيلية المحاذية للضفة الغربية. وقد أثبت الهجوم المنفّذ في يافا أن هذه المخاوف تستند إلى أساس واقعي.
  • لكن، وبناءً على هذا السبب بالتحديد، هناك حاجة إلى مبادرة إسرائيلية لا يعتمد تنفيذها على سمات الشريك، أو الثقة بين الشعبين، فالحاجة إلى تحديد حدودنا والفصل بين الشعبين، مع مواصلة قبضنا على مسائل السيطرة الأمنية، ليست نابعة من الحاجة إلى إرضاء طرف ثالث. بل هي تمثل احتياجاً حيوياً بالنسبة إلينا، على طريق ترسيم مستقبلنا وتعزيز الرؤية الصهيونية.
  • هناك عدد من المزايا في مسألة الحسم الوطني في ترسيم موقع الحدود والتعامل معها كحدود سياسية بكل معنى الكلمة، وتوضيح عدم وجود مطالبات لدينا بالأراضي الواقعة في شرق الحدود التي نحددها، والقول إن هذه الأراضي ستكون موضعاً لسيادة فلسطينية عندما تتهيأ الظروف لاتفاق بين الشعبين: فهي أولاً، ستضمن تقليل ظاهرة العمالة غير القانونية، وترفع من مستوى الأمن على الجانب الإسرائيلي من الحدود. وثانياً، ستوفر الصدقية للأمل الفلسطيني بمستقبل تقرير المصير، وهو ما سيشكل رداً على أيديولوجية التدمير التي تتبناها "حماس"، إذ كلما ارتفعت توقعات تقرير المصير، كلما تعزز المعسكر الفلسطيني المعتدل في مواجهة المتطرفين.
  • إن من شأن مثل هذه الخطوة تلبية توقعات الدول المعتدلة في الإقليم، وإتاحة دمج إسرائيل في تحالف إقليمي قوي تقوده الولايات المتحدة لمواجهة إيران وأذرعها، وأن يضمن أيضاً إنهاء القتال في غزة، وإدارة القطاع من خلال دول عربية معادية لحركة "حماس"، وتحقيق الهدف الأسمى المتمثل في إعادة الأسرى. وستتيح هذه الخطوة إقامة علاقات مع السعودية ودول عربية وإسلامية أُخرى لا زلنا بانتظار قرارها. هذه الخطوة، الضرورية لأمن إسرائيل ومستقبلها، قد تؤدي إلى منع التصعيد في الضفة الغربية واستقرار سيطرة الجهات المعتدلة فيها، وهي ستضمن، بالتوازي، فرصاً ذات أهمية استراتيجية وتاريخية لإعادة تشكيل التوازن الإقليمي للقوى.

 

ــــــــــــــــــــ

[1] منظمة إسرائيلية تضم مجموعة من القادة العسكريين والأمنيين السابقين في الجيش الإسرائيلي، وجهاز الموساد، والشاباك (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي)، ومسؤولين رفيعي المستوى في الساحة الأمنية. تهدف المنظمة إلى تعزيز أمن إسرائيل من خلال الحلول السياسية والدبلوماسية، وخصوصاً فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. تأسست المنظمة على قناعة بأن الحلول العسكرية وحدها لا تكفي لضمان أمن إسرائيل، وأنه يجب السعي لتحقيق تسوية سياسية قائمة على حل الدولتين. ويؤكد أعضاء المنظمة أن هذا الحل هو الذي سيحفظ الطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل، ويقلل من التهديدات الأمنية في المدى الطويل.

[2] (مسيرة الحمق أو مسيرة الغباء) مستوحى من كتاب بعنوان "The March of Folly" (مسيرة الحمق) الذي كتبته المؤرخة الأميركية باربرا توكمان (Barbara Tuchman) في سنة 1984. يصف الكتاب أمثلة من التاريخ اتخذت فيها الحكومات قرارات غير منطقية ومضرة بمصالحها، على الرغم من توافر البدائل المنطقية والمعقولة. الفكرة الرئيسية في الكتاب هي أن القادة غالباً ما يتجاهلون الحقائق والمعطيات الواضحة، ويستمرون في اتباع سياسات تؤدي إلى كوارث. ويتم استخدام المصطلح بشكل واسع في المعجم السياسي الإسرائيلي، للإشارة إلى سياسات أو قرارات يُعتقد أنها قصيرة النظر أو ضارة، ولا تأخذ العواقب الواضحة والمخاطر المحتملة بعين الاعتبار.

[3] دخل مصطلح "لا يوجد شريك" إلى القاموس السياسي الإسرائيلي بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد في سنة 2000، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين صرّح إيهود باراك بأنه "لا يوجد شريك" فلسطيني لتحقيق السلام. هذا المصطلح أصبح شائعاً في الخطاب السياسي الإسرائيلي، وخاصةً بين مَن يعارضون التعامل مع السلطة الفلسطينية.