روسيا عالقة مع الأسد، وفقدت موطئ قدمها في الشرق الأوسط
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • قبل بضعة أيام فقط، وخلال قمة عُقدت في الدوحة، نفى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بغضب، الادعاءات التي تفيد بأن روسيا تُخلي قاعدتها البحرية في طرطوس. كذلك، رفض صور الأقمار الصناعية التي أظهرت أن روسيا سحبت سفنها من المنطقة. وأكد لافروف قائلاً: "هذا مجرد تدريب عسكري، لا أكثر". لقد استرسل لافروف، الدبلوماسي المحنك الذي يشغل منصب وزير الخارجية منذ سنة 2004 في خدمة بوتين، في الحديث عن التدريبات العسكرية للأسطول الروسي في سورية، بينما كانت طائرات النقل تُعيد من هناك المعدات والأفراد في اتجاه واحد فقط - العودة إلى روسيا.
  • منذ أن بدأت عملياتها في سورية في سنة 2015، استثمرت روسيا مئات المليارات من الروبلات في بنيتها العسكرية هناك. لقد أنشأت قواعد واسعة النطاق (قاعدة حميميم التي تبدو كأنها مدينة صغيرة)، وأرسلت آلاف الجنود والمرتزقة الذين عملوا هناك حتى وقت قريب. وفقدت نحو 300 جندي ومرتزق (وهو ثمن زهيد نسبياً، مقارنةً بخسائرها الهائلة في أوكرانيا).
  • لكن، في أعقاب هجوم المتمردين الجديد، لم يبقَ أيّ أثر للتدخل الروسي الذي بدأ قبل نحو عقد. وعلى الرغم من أن سلاح الجو الروسي نفّذ عدداً من الغارات في شمال البلد، بعد أن سيطر المتمردون على حلب، وتقدموا نحو حماة، فإنه تبين، الآن، أن الأهداف كانت مدنية، في معظمها، وقليلاً ما استهدفت قواعد للمتمردين. عندما تصاعدت الأمور، بدأت وسائل الإعلام الروسية، التي تجاهلت في البداية الأحداث الدرامية في سورية، باستخدام مصطلح "المتمردين". حتى وقت قريب، كانت تصف جماعة "هيئة تحرير الشام" التابعة للجولاني بـ"الإرهابيين".
  • لقد رُفع علم المعارضة السورية، حتى على مبنى السفارة السورية في موسكو، في اليوم الذي حصل فيه الرئيس بشار الأسد على اللجوء السياسي في روسيا. وحدهم، المدونون العسكريون الروس الذين غطوا الحرب في سورية، عبّروا عن أسفهم لِما وصفوه بـ"هزيمة" بلدهم. لقد لامَ هؤلاء القوات السورية التي فرّت من المعركة، والقيادة العسكرية الروسية التي وصفوها بأنها تفتقر إلى الكفاءة، وبأنها "تخلت عن الأصول الروسية في سورية".
  • لماذا تخلت روسيا عن الأسد بهذه السرعة؟ على الأرجح، شعرت موسكو بالدهشة من التقدم السريع للمتمردين والانهيار الكامل للنظام. لكن الضربة القاسية التي تلقاها حزب الله، والضعف الحاسم لجيش الأسد، وعزم المتمردين، كانت هي العوامل التي رجّحت الكفة، وأدت إلى الإحساس بأن المشروع السوري لم يعد قابلاً للإنقاذ.
  • أيضاً، أولويات روسيا اليوم تختلف عمّا كانت عليه في سنة 2015. فهي غارقة حتى قمة رأسها في الحرب الأوكرانية، وهو ما يؤثر في قوتها، ويحدّ من قدرتها على التحرك في ساحات أُخرى. في ذلك الوقت، كان الجهد العسكري في سورية مدعوماً من حزب الله والميليشيات الشيعية، واكتفت روسيا بشن الغارات الجوية. وفقط، في حالات نادرة، مثل المعارك قرب تدمر وحقول الغاز الاستراتيجية على الحدود مع العراق، أرسلت روسيا مرتزقة من مجموعة "فاغنر" نيابةً عنها.
  • في الواقع، لم تكن روسيا راضيةً عن الأسد منذ فترة طويلة. لقد أدركت موسكو أن الشلل السياسي والاقتصادي في سورية يشكل خطراً على مصالحها، لذلك، حاولت الدفع في اتجاه إقامة حوار سياسي بين الأسد وأطراف المعارضة لإنهاء الحرب. لكن الأسد لم يُظهر قط أيّ جدية في هذا الشأن. حتى إن روسيا انتقدت الرئيس السوري بسبب الفساد، في وقت يعاني معظم المواطنين السوريين جرّاء أوضاع اقتصادية سيئة جداً.
  • إن فقدان روسيا موطئ قدمها في سورية لا يعني فقط خسارة الوصول إلى ميناء في منطقة استراتيجية تتيح لها إسقاط قوتها خارج حدودها. بل إن الوصول إلى المياه الدافئة، الذي يوفر منفذاً جيو - سياسياً مهماً إلى البحر الأبيض المتوسط، كان هدفاً سعت روسيا لتحقيقه منذ عهد القياصرة. أمّا الآن، على سبيل المثال، لن يكون لدى الروس طريق نقل مهمة كانت تخدم توسّعهم في أفريقيا.
  • ليس سراً القول إن موسكو منخرطة بشكل كبير بما يجري في دول، مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي والنيجر والسودان، وأنها تشغّل ميليشيات مدعومة روسياً هناك. كانت الطائرات الروسية، التي تحمل أسلحة إلى هذه الدول، تنطلق من سورية، وتعود إلى قواعدها من دون عوائق. وبالتالي، فإن محاولاتها دفع فرنسا خارج أفريقيا، والتي نجحت أحياناً، لن تكون سهلة الآن، ومن غير المؤكد ما إذا كانت روسيا ستتمكن من تعميق وجودها في القارة.
  • هناك أمر آخر قد يهدد الروس، وهو النظام الذي سيُقام في سورية مستقبلاً. على الرغم من أن قيادة المتمردين تؤكد أن الوضع تحت السيطرة، فإنه لا شك في أن هؤلاء يشعرون بحماسة كبيرة في إثر انتصارهم. في السابق، كانت هذه المخاوف تُثار في الكرملين ومفادها: أن روسيا لا تستطيع أن تسمح لنفسها بالارتباط بمعقل جهادي قد تكون له تداعيات على المناطق الإسلامية داخل أراضيها. أمّا الآن، فإن الاتجاه الذي قد تسلكه القيادة الجديدة، يمكن أن ينعكس أيضاً على روسيا التي عانت في السنوات الأخيرة جرّاء هجمات إرهابية خطِرة، بما في ذلك الهجوم الذي نفّذه تنظيم "داعش" في قاعة عروض في موسكو هذا العام.
  • وهكذا، بعد تورُّط استمر عقداً من الزمن تقريباً، تعود روسيا إلى ديارها، بعد مغامرة خارجية أُخرى غير ناجحة. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت ستتمكن من الحفاظ على بعض قواعدها في سورية، وربما تحاول تقديم أمر ما للمتمردين في مقابل الحفاظ على أملاكها هناك. لكنها فقدت موطئ قدمها في البلد، ونتيجةً لذلك، فقدت موطئ قدمها في الشرق الأوسط أيضاً. إن الفوائد التي تمكنت روسيا من تحقيقها من سورية، سواء من خلال فرصة توسيع نفوذها، أو اختبار أنواع مختلفة من الأسلحة للحرب في أوكرانيا، قد وصلت إلى نهايتها.
  • لقد ألحق الانهيار السريع للنظام السوري ضرراً بالغاً بسمعة روسيا، وأظهر عجز موسكو عن حماية حليفتها في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، عند مقارنة الدعم الأميركي المستمر لإسرائيل، بالاستجابة الفاترة من روسيا لاستغاثات الأسد، فإن المقارنة لا تصب في مصلحة موسكو.
  • من المشكوك فيه ما إذا كانت روسيا قادرة على التصرف بشكل مختلف، بعد أن تحول مركز الثقل من الشرق الأوسط إلى منطقة قريبة منها: فإلى جانب أوكرانيا، هناك أيضاً صراع مستمر ضد الهيمنة الروسية في كلٍّ من مولدوفا وجورجيا. ويضاف الإخفاق الحالي إلى عجز (وربما عدم رغبة) بوتين في الدفاع عن أرمينيا، التي كانت تُعتبر حتى وقت قريب شريكاً في الحرب ضد أذربيجان.
  • الآن، تجد روسيا نفسها عالقة مع الأسد وأفراد عائلته، الذين حصلوا، هم أيضاً، على اللجوء السياسي. بل إن بعض أعضاء الدوما، اقترح منح الأسد الجنسية الروسية، باعتبار أنه "قدّم الكثير من أجل مصالح روسيا". ربما يدفع هذا الفشل موسكو إلى إعادة النظر في استراتيجياتها على الساحة العالمية، بما في ذلك أوكرانيا، وبصورة خاصة مع اقتراب دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

 

 

المزيد ضمن العدد