الفجوات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوي
من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
- إن زيارة الرئيس ترامب المقررة في شهر أيار/مايو للسعودية، والإمارات العربية المتحدة وقطر، تسلط الضوء على القرار الاستراتيجي الذي تواجهه إسرائيل؛ إمّا تحرُّك دبلوماسي فوري للإفراج عن جميع المخطوفين والمخطوفات الـ59، وإمّا عملية عسكرية واسعة النطاق، تهدف إلى إسقاط حُكم حركة "حماس"، حسبما حدّد رئيس الوزراء نتنياهو.
- توجد هنا مفارقة جوهرية بين الهدفين. الحاجة إلى الإفراج عن المخطوفين هي حاجة فورية، بينما من شأن عملية عسكرية واسعة أن تُعرّض حياتهم للخطر بشكل فعلي. المعالجة الجذرية لحركة "حماس" ضرورية، لكنها يمكن أن تتحقق في مدى زمني أطول، بينما تنفيذ الخيار العسكري قد يُعيق تحقيق السلام التاريخي مع السعودية، وتوسيع المحور الاستراتيجي مع الدول العربية، برعاية الولايات المتحدة.
- في الوقت نفسه، يُظهر الرئيس ترامب إصراراً على منع إيران من الحصول على السلاح النووي، مع تفضيله الطريق الدبلوماسية من خلال اتفاق نووي جديد، تزامناً مع التلويح بإمكان اللجوء إلى الخيار العسكري. تتماشى هذه السياسة مع الرؤية الشاملة لترامب، الساعية لدفع تسويات إقليمية وعالمية واسعة النطاق، كما يتجلى أيضاً في جهوده المكثفة لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
- هذه الأمور كلها تبيّن وجود فجوات بين الاستراتيجيا التي تنتهجها إدارة ترامب وبين سياسة الحكومة الإسرائيلية في سلسلة من القضايا. فما هي تلك القضايا؟
سياسة نتنياهو بشأن استمرار الحرب في غزة
- إن استئناف الغارات المكثفة التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على غزة يسلّط الضوء على ثمن الاستراتيجيا الإسرائيلية الشاملة تجاه "حماس". كدرس مركزي بعد عام ونصف عام من الحرب المطولة، بات من الواضح للجميع أن على حكومة إسرائيل بلورة أهداف استراتيجية قابلة للتحقيق في كل عملية عسكرية، لكن خلافاً لذلك، فإن الإنجازات العسكرية ستتآكل، مثلما حدث فعلاً في الأشهر الأخيرة، إذ عملت "حماس" على استعادة قوتها وسيطرتها على الأرض بالتدريج، لا بل سعت لتنفيذ هجمات جديدة مرةً أُخرى.
- لا شك في أن غارات الجيش الإسرائيلي ستُلحق أضراراً جسيمة بحركة "حماس" وتضعفها. ومع ذلك، وبحسب فهمنا، فإن هذه الغارات لن تنجح في إقناع الحركة بالموافقة على صيغة للإفراج عن جميع الرهائن، من دون إنهاء الحرب، وعلاوةً على ذلك، فإنها لن تؤدي إلى انهيار الحركة، أو إنهاء حُكمها، وخصوصاً لأن العمليات العسكرية لا تتكامل مع صوغ خطة استراتيجية لـ"اليوم التالي"، ومع بلورة بديل سياسي من حُكم "حماس"، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وبالتعاون مع الدول العربية.
- يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي الأسمى إعادة جميع المخطوفين والمخطوفات الـ59، إذ تشير المعطيات إلى أن 24 منهم ما زالوا في قيد الحياة. حتى الآن، تبيّن أن العمليات العسكرية، مهما كانت ناجحة، لم تؤدِّ إلى تحرير مخطوفين أحياء، باستثناء حالات نادرة. من جهة أُخرى، فإن المخطوفين، في أغلبيتهم العظمى، عادوا من خلال تسوية سياسية، وهذا يعني أن الطريق الوحيدة لتحرير جميع الذين ما زالوا في أسر "حماس"، هي من خلال بلورة صيغة سياسية جديدة وشاملة. علاوةً على ذلك، ونظراً إلى أن الوقت يشكل عاملاً حاسماً، وكلّ يوم يمرّ قد يكون مصيرياً بالنسبة إليهم، هناك حاجة ملحّة إلى الدفع بتسوية فورية، انطلاقاً من واجب إنقاذ الأرواح.
- على الصعيد الإقليمي الاستراتيجي، فإن استمرار الحرب قد ينطوي أيضاً على أثمان سياسية ثقيلة، وفي مقدمة هذه الأثمان، يبتعد إمكان بلورة تسويات إقليمية، أكثر فأكثر، وعلى رأسها اتفاق تطبيع تاريخي مع السعودية، وهو اتفاق قد يُحدث تغييراً جوهرياً في الوضع السياسي-الأمني لإسرائيل، ويقوم أساساً على تعميق التحالف مع الدول العربية السُّنية وتشكيل جبهة مشتركة في مواجهة إيران.
فرصة لإضعاف إيران
- من جانبها، ما زالت إيران تشكّل التهديد المركزي لإسرائيل، نتيجة الجمع بين أيديولوجيا متطرفة تدعو إلى إبادة إسرائيل، وبين تموضُعها كدولة على عتبة امتلاك السلاح النووي، والتي، وفقاً لسيناريو متشدد، يمكنها اختراق العتبة والوصول إلى سلاح نووي خلال بضعة أشهر، حسبما أشار في السابق الجنرال ميلي خلال ولايته كرئيس أركان الجيش الأميركي.
- تُحسب لمصلحة إسرائيل نجاحاتها العسكرية في إضعاف "حزام النار" الذي أنشأته إيران، والضربات الكبيرة التي ألحقتها بمنظومات الدفاع الجوي والصواريخ البعيدة المدى التابعة لإيران، فضلاً عن عزم إدارة ترامب على منع إيران من الحصول على سلاح نووي. في الوقت الراهن، يبدو أن الرئيس ترامب يفضّل الدفع بالمسار الدبلوماسي من خلال اتفاق نووي جديد، مع التهديد بالخيار العسكري. يهدف تعزيز القوات العسكرية، وفي مقدمته نشر قاذفات استراتيجية في القاعدة العسكرية دييغو غارسيا في الخليج الهندي، وإرسال حاملة طائرات ثانية إلى الشرق الأوسط، إلى إيصال رسالة، مفادها أن ترامب مستعد أيضاً للعمل عسكرياً، والرسالة التي بعث بها إلى الزعيم الإيراني، والتي تضمنت مطالبة بتوقيع اتفاق جديد خلال شهرين، وتصريحه بأنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق، فإن "أموراً سيئة" ستحدث لإيران، تعكس فعلياً نظرته إلى العالم؛ اتفاق يُنتزع من موقع قوة.
- تلوح في الأفق تطورات مشجعة بالنسبة إلى إسرائيل في لبنان، من شأنها المساهمة في المعركة الشاملة ضد إيران. ولأول مرة منذ عقود، تجري في دولة الأرز عمليات بقيادة الرئيس الجديد جوزف عون تهدف إلى إضعاف القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية لحزب الله. يأتي ذلك إلى جانب الضربات الكبيرة التي وجّهتها إسرائيل إلى قدرات التنظيم، واستمرار العمليات العسكرية لإحباط محاولاته المتكررة لإعادة بناء قوته العسكرية.
- من جهة أُخرى، فإن محاولات إطلاق النار المتفرقة التي نُفّذت من لبنان تعكس التحديات التي تواجهها إسرائيل في الحفاظ على الهدوء فترات طويلة، والحاجة إلى تعزيز قدرات واستعداد الجيش اللبناني لمواجهة عناصر "الإرهاب" في المنطقة.
تدهور نحو ديمقراطية شكلية
- يتصاعد الاحتكاك في داخل إسرائيل بين الحكومة وأجهزة الأمن والسلطات المختلفة، إلى حد بدأ يتطور نحو أزمة دستورية، فبعد أن أدت الضغوط إلى استقالة رئيس هيئة الأركان، قرر وزراء الحكومة إقالة رئيس جهاز الشاباك، وبدء إجراءات إقالة المستشارة القانونية للحكومة. وفي الوقت ذاته، تواصل الحكومة الدفع قدماً بقوانين "الانقلاب القضائي"، وعلى رأسها قانون التهرب من التجنيد، وتعديل تركيبة لجنة اختيار القضاة، فضلاً عن محاولة السيطرة على مفوضية الخدمة المدنية من خلال تعيين قائم بالأعمال تم الإعلان عن عدم صلاحيته للمنصب.
- إلى جانب هذا كله، وفي خضم العجز المالي الأكبر في تاريخ الدولة، صادقت الحكومة على تحويل مليارات الشيكلات إلى مؤسسات دينية حريدية، ولأغراض ائتلافية فقط، في خطوة قد تؤثر في استمرار تراجُع التصنيف الائتماني لإسرائيل. في ضوء هذه التطورات، يُطلب من رئيس الوزراء أن يوقف جميع هذه الإجراءات الخطِرة فوراً، التي قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات والاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي، والإضرار بطابع الدولة الديمقراطي - الليبرالي.
دلالات وتوصيات
- إن إعادة جميع المخطوفين والمخطوفات هي الطريق الوحيدة الممكنة لتحقيق هدفَي الحرب. أيّ خيار آخر قد يحدد مصير الذين ما زالوا في أسر "حماس". تشكّل إعادة المخطوفين وإنهاء الحرب في غزة شرطَين ضروريَّين قد يمهّدان الطريق لدفع عمليات إقليمية واسعة النطاق، وبالإضافة إلى ذلك، فإنهما سيسمحان لإسرائيل، بالتعاون مع الدول العربية، بوضع خطة لإعادة إعمار قطاع غزة وإنهاء حُكم "حماس".
- من جهة أُخرى، فإن الانجرار نحو إدارة عسكرية قد يُكلّف إسرائيل أثماناً باهظة، وسيكون عبئاً ثقيلاً يتطلب استثمارات مالية كبيرة وتجهيز قوات احتياط واسعة. فاستمرار الحرب، وخصوصاً فرض إدارة عسكرية على غزة، وهي منطقة منكوبة، سيُجهض فعلياً إمكان التقدم في عملية التطبيع مع السعودية، بل قد يؤدي إلى تدهور العلاقات الاستراتيجية مع حلفائنا في المنطقة. هذا إلى جانب احتمال إطلاق تحركات قانونية ضد إسرائيل، التي قد تُعتبر مسؤولة بالكامل عن مصير أكثر من مليونَي نسمة من سكان غزة.
- في مواجهة إيران، يجب أن يكون الهدف الأعلى لإسرائيل هو حرمانها القدرة على امتلاك سلاح نووي. تقف إسرائيل أمام فرصة تاريخية لإضعاف النظام "القمعي" في طهران بشكل كبير، ولتحقيق ذلك، هناك حاجة إلى تعميق التنسيق الاستراتيجي مع إدارة ترامب، وتوسيع التعاون مع حلفائنا في المنطقة. على إسرائيل أن تضمن، في حال بدء مفاوضات فعلية بين الولايات المتحدة وإيران للتوصل إلى "الاتفاق النووي 2"، أن بنود هذا الاتفاق تلبي متطلباتها الأساسية على الأقل، والتي تضمن عدم قدرة إيران على التقدم نحو امتلاك سلاح نووي، وتمنع استمرار تطوير برنامجها الصاروخي.
- في موازاة ذلك، ونظراً إلى تفاقُم الأزمات الداخلية التي تعاني إيران جرّاءها، يجب بلورة خطة استراتيجية بعيدة المدى لتغيير نظام الملالي في طهران، انطلاقاً من الفهم أن هذا هو السبيل الوحيد لتغيير الأيديولوجيا المتطرفة التي تدعو إلى إبادة إسرائيل.
- وفيما يتعلق بلبنان، يجب على إسرائيل العمل على تعزيز الحكومة اللبنانية، بشكل يمكّنها من الاستمرار في اتخاذ خطوات لإضعاف قوة حزب الله، ويجب أن يتم ذلك بالتزامن مع مواصلة العمليات العسكرية لإحباط أيّ محاولة من حزب الله، أو جهات "إرهابية" أُخرى في البلد لاستعادة قدراتها.
- أمّا فيما يخص سورية، فيجب استغلال حقيقة أن النظام الحاكم فيها حالياً يعادي إيران وحزب الله، والنظر في فرص التعاون معه، بما يضمن الحفاظ على الهدوء على الحدود، واستمرار عملية إضعاف حزب الله. ويجب أن يتم هذا مع الحفاظ على مناطق الأمن الإسرائيلية داخل سورية، ومواصلة الجهود للقضاء على القدرات الاستراتيجية التي كانت بحوزة الجيش السوري.