المعركة التي لا مفر منها لتفكيك "حاضنة الإرهاب" في جنين
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال، العدد 1606
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- تعيش إسرائيل معركة "إرهابية" منذ أواخر آذار/مارس، قُتل خلالها 19 مواطناً إسرائيلياً. الرد الإسرائيلي يتوزع على كافة مناطق الضفة الغربية، لكن الجهد الأساسي يتركز في منطقة جنين، التي خرج منها منفّذو ثلاث عمليات قُتل فيها 11 إسرائيلياً. هذا النشاط في جنين رفع منسوب التوتر والاحتكاك والجرأة الفلسطينية، وأدى إلى إطلاق نار كثيف، قُتل خلاله جندي في وحدة اليمام [الفرقة الخاصة لمحاربة الإرهاب]، وأصيب عشرات المواطنين والجنود.
- إلى جانب نجاح بعض العمليات القاتلة، كان هناك أيضاً الكثير من عمليات الطعن والدهس التي فشلت، أو أحبطتها قوات الأمن، جزء منها كان قاتلاً، ومن شأنه رفع عدد القتلى الإسرائيليين. لذلك، من المهم تحليل الفترة الحالية، ليس فقط من خلال التطرق إلى الهجمات التي انتهت بعمليات قتل، بل أيضاً التطرق إلى العمليات التي فشلت. فخطورة المنظومة "الإرهابية" التي تتعامل معها إسرائيل، تعكس حجم التهديد المتراكم للعمليات، وكذلك ترجمة هذه العمليات إلى الوعي بالمقاومة العنيفة، التي تتم تغذيتها بفعالية عالية، من خلال جهود "حماس" عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الوقت عينه، تعكس هذه المعركة نجاح "حماس" وجهات أُخرى (الحركة الإسلامية بجناحها الشمالي، وحزب التحرير، والسلطة الفلسطينية) في تحويل المسجد الأقصى إلى عامل يربط التيارات المختلفة في المجتمع الفلسطيني بأجزاء من المجتمع العربي في إسرائيل.
- خلال هذه الفترة، تبين أن منطقة جنين باتت "حاضنة للإرهاب"، ومكاناً مريحاً، وفيه حيّز حرية نسبية للجهاد الإسلامي، الفصيل الأنشط في هذه المنطقة. وتراكمت في المنطقة عمليات التنسيق ما بين الجهاد وتنظيمات أُخرى، مع التشديد على "حماس" والجبهة الشعبية، وحتى كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة "فتح". وخلال الأعوام الماضية، تمأسست فكرة المقاومة في جنين، ليس على صعيد محلي فقط، وتحولت إلى رمز للمقاومة العنيفة. تاريخياً، تُعتبر منطقة جنين منطقة مهمشة جغرافياً، وسياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وسيطرة السلطة المركزية فيها ضعيفة. هذا ما حدث منذ الثلاثينيات، خلال فترة الانتداب، حينها، قُتل عز الدين القسّام في سنة 1936 [والأصح تشرين الثاني/نوفمبر 1935]، في منطقة يعبد، والذي تحول، بمرور الوقت، إلى رمز للمقاومة القومية. وخلال الانتفاضة الثانية، كانت جنين ملجأً للمقاومة الفلسطينية، سقط فيها الكثير من القتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي، وهو ما يحدث خلال حكم السلطة الفلسطينية، وبصورة خاصة في الأعوام الأخيرة.
- في الأعوام الأخيرة، تعيش منطقة جنين، وبصورة خاصة المدينة ذاتها، حالة من الانتعاش الاقتصادي. ويستند هذا الاقتصاد، أساساً، إلى القدرة الشرائية للعرب من إسرائيل، الذين يزورون المدينة بأعداد هائلة. كما عمل عمال كثيرون من جنين في إسرائيل، وتأسس حاجز الجلمة مع ارتفاع حجم البضائع والبشر الذين يمرون عبره. كما أدى افتتاح الجامعة الأميركية في جنين إلى انتعاش اقتصادي، نظراً إلى أن عدداً كبيراً من طلابها هم من العرب في إسرائيل، فبُنيت حولها مساكن الطلاب، واعتمدت التجارة في الأحياء الجديدة المحيطة بالجامعة على الطلاب الذين انتقلوا إلى السكن هناك. وشهدت المدينة طفرة في البناء والاقتصاد. إلّا إن الافتراض السائد الذي يربط ما بين تطوير الواقع اليومي والتشغيلي، والدافع إلى "الإرهاب"، ثبت أنه غير صالح لمنطقة وحالة جنين. فعلى الرغم من الازدهار الاقتصادي، ونسبة التشغيل العالية نسبياً، والعلاقة الوطيدة مع العرب من إسرائيل ومع الاقتصاد الإسرائيلي، فإن جنين بقيت "حاضنة للإرهاب". ولا تزال فكرة المقاومة تنبض في المنطقة التي تنجح في تصدير "الإرهاب" بوتيرة عالية جداً، كما تستطيع أن تكون مصدر إلهام لمناطق أُخرى في داخل الضفة الغربية وخارجها، وأيضاً قطاع غزة - بفضل مكانة الجهاد الإسلامي في المنطقة وعلاقته بالجهاد الإسلامي في قطاع غزة.
- 20 عاماً مرت منذ الانتفاضة الثانية التي لم يعايشها كثيرون من الجيل الجديد، الذي يقود في هذه الأيام المعركة من جنين، كما أن آثارها الصعبة في المجتمع الفلسطيني ليست محفورة في الوعي والذاكرة. هذا بالإضافة إلى أن الإنجاز الذي يبثه الجهاد الإسلامي والفصائل الأُخرى وتعززه "حماس"، والمعركة على الوعي التي تقودها "حماس" وأجواء التحريض، والنشاط الذي تقوم به إيران في المنطقة ودعمها المستمر والكبير للجهاد الإسلامي (ومن الممكن إيران ذاتها تشعر بالنصر، في ضوء انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة)، كل ذلك، إلى جانب سياسة إسرائيلية مترددة، احتوائية وحذرة، يرفع من مستوى الدافعية والتصميم لدى الجيل الشاب على الانضمام إلى المعركة ضد إسرائيل. كما تندمج أحداث أُخرى في هذه الصورة الواسعة، كمقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة خلال اشتباكات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، والاعتداء على نعشها الذي تبين أنه بمثابة عملية في الوعي ضد إسرائيل أعادت طرح القضية الفلسطينية على جدول الأعمال العالمي. أمّا ما يزيد في المعركة على الوعي ويغذيها، فهو الثمن الدموي الذي تكبدته إسرائيل في هذه العمليات، إلى جانب شعور بالانتصار والإنجاز في الساحة الدولية، بالإضافة إلى الافتراض أن إسرائيل تتردد في العودة إلى طريقة العمل التي استخدمتها في الانتفاضة الثانية.
- صحيح أن أجهزة الأمن الإسرائيلية عرفت منطقة جنين بأنها المنطقة الأكثر إشكالية، واختارت تركيز جهودها الهجومية فيها. لكن هذه الجهود موضعية في جوهرها. الجهود التي تتركز في عمليات خاصة بهدف اعتقال مطلوبين ومشتبه فيهم هي جهود استخباراتية أساساً، الهدف منها في أغلب الأحيان هو إحباط عمليات آنية ومستقبلية. هذا العمل العسكري، من دون نشاط شامل يهدف إلى تجفيف البنى "الإرهابية"، يسمح للفلسطينيين المسلحين في المنطقة بتنظيم أنفسهم بسهولة نسبياً، وتركيز جهودهم وقوة نيرانهم للتصدي لدخول القوات الخاصة الإسرائيلية. في هذه الظروف، كل عملية خاصة، حتى ولو انتهت بتنفيذ الاعتقال، أو اغتيال المطلوب والمشتبه فيه، تتحول إلى فصل آخر في قصة المقاومة في جنين، ويدعو إلى الفخر، وفي بعض الأحيان، يؤدي إلى إصابات أو قتلى في الجانب الإسرائيلي. لا يجب التقليل من أهمية عمليات الإحباط الموضعية هذه، لكنها ليست كافية لزعزعة بنية "الإرهاب" في جنين. والأخطر أن هذه العمليات الخاصة تؤدي إلى رصّ الصفوف والشعور بالوحدة في أوساط النشطاء الفلسطينيين، كما تؤدي إلى قضم قدرة الردع الإسرائيلية.
- الأصوات التي تنتقد عملية واسعة، تبرر انتقادها بالخطورة الكامنة في الانجرار إلى حرب على عدة جبهات. وتشير تقديرات هذه الأصوات إلى أنه يجب التعامل مع التهديد القادم من جنين موضعياً. إنجازات أسلوب العمل الإسرائيلي الحالي في منطقة جنين اليوم، من الممكن أن تكبد إسرائيل ثمناً باهظاً جداً في المدى البعيد. الخوف من عملية واسعة في جنين، على نمط "السور الواقي"، تجر إليها الضفة الغربية برمتها، ومن الممكن غزة أيضاً وجهات متطرفة وقومية من أوساط العرب في إسرائيل، يفسَّر كضعف إسرائيلي، ويشجع الجهات "الإرهابية" في جنين، وافتعال اشتباكات، واستعلاء من جانب قيادات "حماس". وأكثر من ذلك، فإن هذا الخوف ينعكس على الجبهة الإقليمية - حزب الله وإيران - كما يؤدي إلى تآكل الردع الإسرائيلي.
- لذلك، سيكون من المهم إعادة تقييم السياسة الحالية بكل ما يخص منطقة جنين، فحص القيمة الاستراتيجية المضافة، الكامنة في عملية واسعة أكثر بكثير، يتم خلالها تحويل قوات عسكرية كبيرة جداً، تعمل ضد جبهات كثيرة في المنطقة والقرى المجاورة لجنين. في عملية كهذه، سيكون من الصعب على المسلحين الفلسطينيين توجيه النيران المركزة باتجاه قوة الجيش التي ستنشط في أكثر من مكان في الوقت ذاته. صحيح أن الخطر قائم في أن تتوسع المعركة، ولكن على قوات الجيش وقوات الأمن الإسرائيلية أن تكون قادرة على الرد السريع والملائم، كي لا تجد ذاتها أسيرة لمعركة الوعي التي تقودها "حماس". هذا بالإضافة إلى أن معركة واسعة في جنين، من شأنها أن تكون رادعاً مهماً لمعركة أوسع.
- يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي من عملية واسعة هو تدمير بنية "الإرهاب" في المنطقة، وبث القوة الرادعة له ولغيره. هذا بالإضافة إلى أن هذه المعركة الواسعة في جنين ستخدم المنطق الاستراتيجي حيال قيادة "حماس" في قطاع غزة، ويردعها عن الالتزام بالاستراتيجيا التي بدأتها مع عملية "حارس الأسوار". فالهدوء النسبي في قطاع غزة مضلّل: منطقة جنين هي جزء لا يتجزأ من التصعيد الذي حدث خلال الفترة الأخيرة في الجبهة الفلسطينية - الإسرائيلية. استراتيجيا الفصل التي تبنّتها "حماس"، والتي تقوم على إبقاء غزة هادئة وخارج المعركة الفعلية، وفي المقابل، إشعال كافة الجبهات الأُخرى وقيادة جهود مركزة ومنهجية في مجال الوعي، تستند إلى التحريض والتشجيع على المقاومة المسلحة. في مقابل ذلك، قررت حكومة إسرائيل، باسم عقيدة الاحتواء وعدم الرغبة في جر قطاع غزة إلى المعركة الأساسية الدائرة في الضفة، عدم تدفيع قيادة "حماس" في غزة الثمن - وهذه سياسة يراها الفلسطينيون كدليل ضعف، وتشجع جهود "الإرهاب".
- معركة واسعة ضد بنى "الإرهاب" في جنين ستحصد أثماناً عالية من نشطاء "الإرهاب"، وتقوم بصوغ قواعد اللعبة في الجبهة الفلسطينية من جديد. معركة تقودها قوة برية واسعة جداً تقوّض صورة التخوف الإسرائيلي من استخدام القوة، وتُظهر قوة ردع إسرائيلية تتخطى المنطقة الفلسطينية أيضاً.