لا تسارعوا إلى تأبين الدور الروسي في سورية
تاريخ المقال
المصدر
- مؤخراً، برزت تقارير تحدثت عن انسحاب القوات الروسية من سورية وانتقالها إلى جبهة القتال في أوكرانيا. وترافقت هذه التقارير مع ادعاء أن الإيرانيين بدأوا باستغلال الفراغ الذي تركته روسيا وتعميق وجودهم في سورية. في هذه النقطة الزمنية، من الأصح أن نأخذ في الحسبان الواقع المعقد في سورية: حتى لو كان هناك دلائل على تحريك القوات الروسية وإرسال بعضها إلى أوكرانيا، فإن هذا لا يدل على تغيير استراتيجي في الانتشار الروسي في سورية، وهو بالتأكيد ليس بداية لانسحابها من هناك. وهناك عدة تفسيرات لما يجري.
- الوجود الروسي في سورية هو في الأساس محدود، ولا يتطلب موارد استثنائية من موسكو، حتى في ضوء مراوحة الوضع في أوكرانيا. إن أحد الخطوط الأساسية للاستراتيجيا الروسية في الساحات المختلفة في العالم هو " أقصى حد من التأثير، مع أدنى حد من الاستثمار". سورية نموذج كلاسيكي من ذلك، لقد فهم الروس هناك أنهم قادرون على استخدام حد أدنى من القوة العسكرية من أجل تحقيق أقصى حد من النتائج: نفوذ إقليمي، ومنع الأميركيين من أن يكونوا اللاعب المركزي في المنطقة.
- ضمن إطار هذه المقاربة، لا تحتاج روسيا إلى التواجد في كل الأراضي السورية من أجل المحافظة على تأثيرها. في الأعوام الأخيرة، أعطت موسكو أولوية لمركزين استراتيجيين في غرب سورية: المرفأ البحري في طرطوس، والقاعدة الجوية في حميميم، الواقعين عملياً تحت سيطرتها. بالإضافة إلى ذلك، هناك وجود روسي في مواقع صغيرة أكثر في شرق جنوب سورية، حيث تعمل قوات "الشرطة العسكرية الروسية" المسؤولة، من بين أمور أُخرى، عن تهدئة الأجواء في المواجهات التي تنشب بصورة مستمرة بين قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران وبين ما تبقى من أطراف المعارضة.
- تعتمد الاستراتيجيا الروسية على فكرة "الوكلاء". ويمكن لهؤلاء الوكلاء أن يكونوا مرتزقة من فرقة فاغنر، أو ميليشيات سورية محلية. لذلك، فإن نقل "شرطة عسكرية"، أو قوات محلية تعمل بإمرة روسيا، من منطقة انتشار إلى أُخرى، وحتى إرسال بعضها إلى الحرب في أوكرانيا، لا يدل على انسحاب القوات الروسية من سورية، ولا على تغيير استراتيجي في انتشارها هناك.
- بالنسبة إلى روسيا، تشكل سورية رصيداً عسكرياً ودبلوماسياً. فمنذ بدء تدخُّلها في أيلول/سبتمبر 2015، استخدمت روسيا سورية ملعباً للتدريبات وساحة لتجربة أدواتها القتالية، شملت فحص مدى سلاحها وفعالية منظومتها الدفاعية وتطبيق عقيدتها القتالية. مع ذلك، يعتبر الروس سورية، قبل كل شيء، بوابة إلى شرقي البحر المتوسط وموطئ قدم لترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية. خلال الأعوام الستة الأخيرة، وطدت روسيا علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية مع دول، مثل مصر وليبيا ودول الخليج وإيران.
- في الساحة الدولية، وجود روسيا في سورية، وفي الأساس في القواعد العسكرية الواقعة تحت سيطرتها، يسمح لها بتسليط الضوء على قوتها في مواجهة الولايات المتحدة وتركيا، وفي الأساس في مواجهة حلف الناتو. الوجود الروسي في البحر المتوسط له أهمية كبيرة، من أجل ردع أسطول الناتو المنتشر هناك، كما أنه عامل رادع يشكل تهديداً للناتو في السياق الأوكراني. بناءً على ذلك، فإن فرص تنازُل روسيا عن الرصيد السوري، وعن مكانتها هناك، ونقلها إلى الإيرانيين، ضئيلة وغير معقولة. في هذه الأيام التي يشهد فيها العالم ضُعف روسيا في أوكرانيا والضرر الشديد الذي لحق بصورتها، تزداد الحاجة الروسية، أكثر فأكثر، إلى المحافظة على ساحة التأثير السورية في المجال الشرق الأوسطي.
- صحيح أن إيران معروفة بقدرتها على تحديد الأماكن التي تسودها الفوضى، والتي تفتقر إلى السيطرة، كي تتسلل إليها عسكرياً ومدنياً، لكن التقارير الأخيرة بشأن تعميق الوجود الإيراني في سورية لا تحمل خبراً جديداً. من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من خلال متابعة التمركز في سورية، هي قدرة الإيرانيين على التأقلم والتكيف مع الظروف المتغيرة.
- التقارير الأخيرة تفيد بأن التسلل الإيراني في عمق شرق سورية، في حلب وحمص، هو جزء من توجُّه مستمر لا علاقة له بتحريك قوات روسية أو غيرها. منذ فترة نشهد تغيرات في الانتشار الإيراني، تشمل تقليصاً كبيراً في عدد القادة والمستشارين في سورية، والاعتماد على وكلائها أكثر فأكثر، وعلى رأسهم حزب الله والميليشيات الشيعية، ومؤخراً، على سوريين محليين.
- ضمن هذا الإطار، جرى تقليص للقوات الإيرانية ووكلائها في جنوب سورية، نتيجة الهجمات الجوية المكثفة على المنطقة، والتي تُنسب إلى إسرائيل، أو نتيجة ضغوط مورست عليها من جهة روسيا. هذه التطورات دفعت الإيرانيين في الأعوام الأخيرة إلى تعميق تمركزهم في شرق سورية وشمالها في مناطق سيطرة النظام، بهدف تقليص انكشافها وتعرُّضها للضربات الإسرائيلية. ثمة اعتبار آخر لنقل القوات شرقاً، هو إيجاد موطئ قدم على الحدود مع العراق، والاقتراب من حقول النفط الموجودة هناك، وتهيئة الأرضية لليوم التالي لانسحاب القوات الأميركية من سورية. لذلك، فإن المقصود هو خطة استراتيجية متواصلة لترسيخ الوجود والتأثير في عمق سورية، وليس قراراً تكتيكياً ناجماً عن تقليص محتمل للوجود الروسي في هذه المناطق.
- من المعقول الافتراض أن مسألة مستقبل الوجود الروسي في سورية تثير قلق الرئيس بشار الأسد الذي يعتمد على الدعم الروسي. ويمكن أن يكون لهذا علاقة بالزيارات المتبادلة، مؤخراً، بين مسؤولين سوريين رفيعي المستوى ومسؤولين إيرانيين، وخصوصاً الزيارة المهمة التي قام بها الأسد إلى طهران في مطلع أيار/مايو (وهي الثانية منذ نشوب الحرب في سورية). الهدف من الزيارة، على ما يبدو، التذكير بأهمية الحلف الاستراتيجي بين الطرفين وضمان الوجود الإيراني في سورية مع الروس، أو من دونهم. وربما يدفعنا هذا إلى استحضار الخطة الطموحة والساذجة للدول العربية بالاعتراف بالأسد كحاكم شرعي وإعادته إلى حضن العالم العربي، في مقابل أن يضمن، من جهته، إبعاد الإيرانيين عن الأراضي السورية.
- في الخلاصة، الوضع في سورية كما في ساحات أُخرى في الشرق الأوسط، هو أكثر تعقيداً من أن نصوره بالأبيض والأسود، أو "لعبة حصيلتها صفر". المصلحة الروسية في المحافظة على وجود كافٍ من خلال تقليص التمركز الإيراني في سورية لا تزال على حالها. والمصلحة الإيرانية في استمرار التمركز في سورية بأساليب مختلفة هي أيضاً لا تزال على حالها. ولا يزال الأسد يعتمد على الدولتين، بالإضافة إلى عدم قدرته، أو رغبته في الانفصال عنهما في هذه المرحلة. لذلك، من الأفضل لنا الاعتراف بهذه الدينامية المعقدة وعدم تضييع الصورة الشاملة الماثلة أمام أعيننا في الشمال.