اليمين يعترف بالنكبة كي يستطيع تكرارها
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • هذا الأسبوع، حدثت انعطافة مثيرة للاهتمام قام بها صحافي يسمى إيتمار فلايشمان كان في الماضي ناطقاً بلسان نفتالي بينت. ففي برنامج تلفزيوني على القناة الـ14 قال فلايشمان الكلام التالي: "في النهاية، ما حدث هنا أن العرب نسوا النكبة، وحان الوقت للبدء بتذكيرهم بها".
  • حتى لو كان هذا الكلام بالمقلوب ("العرب نسوا... ويجب تذكيرهم")، فإننا لا نرى في كل يوم يهودياً صهيونياً يعترف بالمأساة الفلسطينية بصراحة.
  • على الرغم من أن النكبة كانت الثقب الأسود منذ قيام دولة إسرائيل، وعلى الرغم من أن الاعتراف بالنكبة كان شرطاً للحياة المشتركة، فإن إسرائيل، الدولة المستقلة، لا تزال تنكرها إنكاراً كاملاً. ومن خلال التقنيات التي تستخدمها الدولة للذاكرة وعملائها من المثقفين، لا يزال الحديث عن النكبة مغلقاً ومحجوباً؛ وأي محاولة للعودة إليه تواجه جداراً من المحرمات، مثلما جرى إغلاق جميع "نقاط الدخول" إلى نقاش نقدي للنكبة. الكتب المدرسية في الجهاز التعليمي لا تتضمن اعترافاً بالنكبة، بل تقدّم وجهة نظر تاريخية سطحية تثقف أجيالاً من التلامذة الإسرائيليين على الجهل المنظم. كما جرى طمس تاريخ النكبة أيضاً في رؤيا الحكم، وفي التفكير السياسي المتمثل في نموذج "الدولة اليهودية والديمقراطية"، وفي محاولات التبرير الملتوية ("العرب بدأوا" و"هم لم يقبلوا خطة التقسيم"، وهم الذين "ضيّعوا الفرصة"، و"زعماؤهم أمروهم بالرحيل").
  • سبب هذا الإنكار الساحق هو الهياكل العظمية التي تحتفظ بها إسرائيل في خزانتها، هياكل إذا ظهرت فإنها تهدد بتقويض صورتها الأخلاقية كدولة صالحة. يشكل إنكار النكبة عموداً أساسياً للنظام في إسرائيل، الهياكل العظمية التي يخبئها هي التطهير العرقي الذي جرى في سنة 1948، والمذابح، وتدمير القرى العربية، ونهب أراضي الفلسطينيين وأملاكهم. كلمة النكبة بحد ذاتها التي ترمز إلى المأساة الفلسطينية لم يكن يعرفها الإسرائيليون حتى سنة 2011، وبفضل القانون الأحمق المعروف بـ"قانون النكبة"، تعرّف كل بيت إسرائيلي تقريباً إلى وصف للمأساة الفلسطينية. في ذلك الوقت، كان استخدام كلمة نكبة بحد ذاته يزيد في حدة الإنكار الذي اتخذ أوجهاً متعددة، مثلاً من خلال صورة مبتذلة في كتاب قبيح (معادٍ للسامية) تحدث عن "نكبة الهراء"، والذي نشرته منظمة "إم ترتسو" [منظمة صهيونية يمينية متطرفة معادية للعرب].
  • يجب الاعتراف بأن جدران الإنكار تآكلت في العقدين الأخيرين، في الأساس بفضل التيارات الإصلاحية في تأريخ 1948، ومن خلال الكشف عن أرشيفات جديدة (أغلبيتها بالعربية) تصف التطهير العرقي للفلسطينيين، ومن خلال عمل منظمات حفظ الذاكرة، وأبرزها منظمة "زوخروت". يتبين لنا من خلال المادة التي كُشف عنها أنه حتى لو قبِلنا الحجة المرفوضة في أنه تحدث عمليات طرد في كل حرب، فإن ما حدث هنا لم يكن نتيجة مرافقة فقط للحرب، لأن إسرائيل، الدولة المستقلة، منعت عودة اللاجئين إلى بيوتهم في نهاية الحرب، وصادرت أراضيهم ونهبت أملاكهم. لذلك، إن مصطلح "التطهير العرقي" لا يشمل فقط حرب 1948، بل أيضاً منع عودة اللاجئين بعد قيام السيادة اليهودية ومحو التاريخ الفلسطيني. هذا أحد تبريرات الادعاء أن النكبة لم تنتهِ قط، ويُشار إليها في السردية الفلسطينية " النكبة المستمرة".
  • كلام فلايشمان يدفعنا خطوة أُخرى إلى الأمام بشأن الاعتراف بالنكبة، وليس مفاجئاً صدور هذا الكلام عن صفوف اليمين المتطرف. أحد المظاهر غير الطبيعية والمذهلة في النقاش الإسرائيلي هو أن اليمين كان يتقدم دائماً على اليسار بشأن طرح مسألة الاعتراف بالنكبة، حتى لو كان هدفه الاستفزاز والتحريض. فقبل عشرة أعوام، عندما جاء إيتمار بن غفير للتظاهر أمام جامعة تل أبيب بحجة أنها مقامة فوق آثار قرية الشيخ مُونّس [قرية عربية هُجّر سكانها في حرب 1948 وضُمّت أراضيها إلى بلدية تل أبيب] خرج الطلاب والأساتذة اليساريون لطرد المتظاهرين. إعادة طرح قضية 1948 للنقاش تقوّض فكرة الدولتين لشعبين، التي تعتمد على حل النزاع من دون الاعتراف بالنكبة واعتبار أن النزاع بدأ في سنة 1967.
  • لكن إذا عدنا إلى فلايشمان، فهو فعلاً لا يهتم بالكشف عن ذكرى النكبة أو تاريخها. وبدلاً من ذلك، يعرض علينا رؤيته للمستقبل. "إذا لم يتعقّلوا، وإذا واصلوا قتل أولادنا، فإن المحطة الثانية لهم هي الانتقال إلى الأردن، أو إلى مخيم اليرموك في سورية. هذا سيحدث إذا استمرت الأمور على هذا المنوال. مأساة العرب الكبرى هي... ببساطة، نأخذهم في الشاحنات ونرميهم خارج الحدود، هكذا سينتهي الأمر".
  • يرسم فلايشمان خطاً مباشراً بين الماضي والمستقبل من خلال التهديد بالطرد المقبل. والتهديد بنكبة جديدة هو جباية ثمن الاعتراف بالنكبة الأولى. هذا التهديد بالنكبة ليس له تاريخ انتهاء صلاحية. سيبقى يرافق الفلسطينيين كسيف مسلط على رقابهم ما داموا أحياء يتنفسون. تاريخ انتهاء صلاحية هذا التاريخ هو التهديد بالكارثة. اعتراف إسرائيل بالنكبة هو فرصة يمكن أن ينبثق منها نقاش يمنع حدوث نكبة ثانية.