نحو إحياء ذكرى مرور 40 سنة على اتفاقية السلام مع مصر: المخاطر الواضحة والفورية التي تحدق بإسرائيل في الوقت الحالي تأتي من الشمال
تاريخ المقال
المصدر
- بعد عدة أشهر سنحيي ذكرى مرور 40 سنة على إعادة شبه جزيرة سيناء إلى السيادة المصرية، بموجب ما نصت عليه اتفاقية السلام المبرمة مع إسرائيل. وما زالت تصدر عندنا بين الفينة والأُخرى أصوات تدّعي أن هذا القرار كان خاطئاً وخطراً، وسيكلفنا غالياً حين تجتاز فرق الجيش المصري قناة السويس ذات يوم وتعود إلى سيناء وتستعد لهجوم على إسرائيل على طول خط الحدود الدولي.
- سبق أن علّمتنا حرب "يوم الغفران" [حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973] أنه لا يجوز الاستخفاف بالذين يطلقون تحذيرات من هذا القبيل، لكن التجربة المتراكمة في الأعوام الـ40 الأخيرة لا تعزز هذا الخوف. فالحدود مع مصر أصبحت مثل الحدود مع الأردن، هادئة من ناحية أمنية، وهو ما يتيح للجيش الإسرائيلي إمكان تخصيص قوة هزيلة جداً لصيانة تلك الحدود. وقبل 40 عاماً قال لي الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي توفي السنة الفائتة، إنه وبصفته رجلاً عسكرياً كبيراً وقائد سلاح الجو في حرب "يوم الغفران" يعرف ثمن الحرب الباهظ أكثر من الآخرين، وبناء على ذلك أقسم بأن "لا يكون هناك حرب أُخرى بيننا". وكرّر على مسمعي هذا القسَم مرات عديدة. والحقيقة أنه وفى بقسَمه أيضاً، فالسلام البارد بيننا وبين مصر في إبان أعوام ولايته الـ30 صمد أيضاً في وجه أزمات ومواجهات قاسية بين إسرائيل وبين الساعين لإلحاق الشر بنا في العالم العربي. ولم يدخل الجيش المصري إلى سيناء، وتم التشديد على احترام اتفاق تجريد شبه الجزيرة من السلاح.
- ولكن في أواخر عهد مبارك بالذات، وبقوة أكبر بعد تنحيته قبل عشرة أعوام، وُلد تهديدان جديدان لإسرائيل من ناحية الجنوب لأول مرة. ويرتبط التهديد الأول بنمو وتموضع خلايا إرهابية في شمالي سيناء، ويدور الحديث حول ارتباط فتاك بين منظمات، مثل "القاعدة" وتنظيم الدولة الإسلامية [داعش]، وبين شبان من البدو محبَطين من إهمال نظام الحكم المركزي في القاهرة طوال عشرات الأعوام. صحيح أن العمليات المسلحة، في معظمها، تمت ضد الجيش المصري في سيناء وفي داخل مصر أيضاً، لكن إسرائيل شهدت هي الأُخرى أحداثاً على الحدود وإطلاق صواريخ على مدينة إيلات، إلى جانب تفجيرات متواترة لأنبوب الغاز. وثمة أنفاق بين قطاع غزة وسيناء تدفقت من خلالها مواد قتالية وعبوات ناسفة وخبرات عسكرية من دون عراقيل.
- أما التهديد الآخر الذي بات يشكل خطراً علىإسرائيل من الجنوب بعد تنحية مبارك، فقد جاء مع صعود الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم وانتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر. وأثارت علاقات الصداقة والقرب الأيديولوجي بين مرسي ورجاله وقيادة حركة "حماس" في غزة والزيارات المتبادلة قلقاً شديداً في إسرائيل. وتعاظم هذا أكثر فأكثر حين لمّح مرسي إلى نيته "إعادة النظر" في الملحق العسكري لاتفاقية السلام بغية إدخال الجيش المصري إلى سيناء.
- هذان التهديدان لإسرائيل أزالهما الجنرال عبد الفتاح السيسي، الأصغر بين أعضاء المجلس العسكري الأعلى الذي تولى إدارة شؤون مصر بعد مبارك. ففي صيف 2013، السيسي أطاح مرسي من القصر الرئاسي وأبعد الإخوان المسلمين عن الحكم. وكان بالإمكان سماع تنفُّس الصعداء الذي حدث في القدس من مسافات بعيدة. وبالتوازي تم الشروع في معركة استمرت عدة أعوام لتصفية ناشطي الجهاد في شمالي سيناء، المسؤولين عن موت مئات الجنود المصريين وإصابة الآلاف. وبحسب التقارير، فإن إسرائيل لم تساعد في هذه المعركة بالمعلومات وغيرها من الوسائل فقط، بل أيضاً سمحت لمصر بإدخال عشرات كتائب الجيش لمكافحة الإرهاب إلى سيناء. وكجزء من التعاون بين الجيشين، كلف الرئيس المصري كتيبتين منذ المراحل الأولية من المعركة بإحباط نار الصواريخ والقاذفات الصاروخية نحو إيلات، وعمل على سدّ معظم الأنفاق التي ربطت بين غزة وسيناء. وكانت النتيجة القضاء على الإرهاب، حتى وإن لم تتم تصفيته تماماً، وتعمق التنسيق الأمني بين إسرائيل ومصر.
- سيقول المشككون إن هذا التعاون في الإجمال هو موقت، وبسبب المصالح المشتركة وقد يتوقف بقرار من فوق. كما سيدّعون أيضاً، وبحق، أنه لا يجب تجاهل وتيرة التسلح المتعاظمة للجيش المصري الذي قام في الأعوام الأخيرة بشراءأفضل الأسلحة الغربية الهجومية: غواصات، طائرات. وبموازاة هذا يقوم ببناء قواعد جديدة ويعمق البنية التحتية العسكرية، وكل هذا سيوجَّه ذات يوم ضدنا. يضاف إلى ذلك أنه لا يوجد تفسير عقلاني لهذا التسلح، ربما باستثناء رغبة مصر في الحفاظ على مكانتها كجهة قوية ومهمة في ساحة الشرق الأوسط، والاستعداد في وجه تهديدات مستقبلية في البحر الأبيض المتوسط من جانب قوى عظمى كتركيا تحاول أن تعزو لنفسها مخزونات الغاز الطبيعي التي لم ينقب عنها بعد.
- ولكن لا تكفي الإشارة إلى القدرات فيما يتعلق بتحليل التهديد العسكري، بل يجب الإشارة أيضاً إلى النيات. والرئيس المصري لا يعزز التعاون الأمني مع إسرائيل فقط، بل أيضاً اتخذ مؤخراً عدة خطوات حذرة في مجال التطبيع المدني، بتأثير من "اتفاقيات أبراهام" مع دول الخليج، منها عقد لقاء علني مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت في القاهرة، وهبوط طائرات شركة الطيران المصرية في إسرائيل، ودعوته العلنية إلى الدول العربية التي لم يطلق مثيلها في الماضي للسير في أعقاب مبادرة أنور السادات للسلام.
- لا شك في أنه في كل مواجهة مستقبلية مع مصر، في حال اندلاع مواجهة كهذه، سوف يتعين على الجيش الإسرائيلي التصدي لجيش ضخم مزوَّد بسلاح حديث، لكن المخاطر الواضحة والفورية التي تحدق بإسرائيل في الوقت الحالي تأتي من الشمال.