الولايات المتحدة تتغير – ما انعكاسات ذلك على إسرائيل؟
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- المؤتمر الأخير الذي نظمته منظمة "أيباك" [لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية]، اللوبي الداعم لإسرائيل في واشنطن، في نهاية آذار/ مارس الأخير وحضره نحو 18.000 مشارك، جرى تحت شعار يجسد أمنية، "Connected for Good"، لكنه مزدوج الدلالة: "معاً إلى الأبد" و"معاً في الخير". ولم يكن هذا عبثاً أو صدفة. فقد أقيم هذا المؤتمر المهم على خلفية سجال جماهيري وسياسي عاصف جرى في الولايات المتحدة في إثر سلسلة من التصريحات التي أدلت بها عضوا الكونغرس من الحزب الديمقراطي إلهان عمر (مينيسوتا) ورشيدة طليب (ميشيغان)، المؤيدتان جهاراً حركة "المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS) الداعية إلى مقاطعة إسرائيل، واللتان فازتا بعضوية مجلس النواب الأميركي في الانتخابات النصفية التي جرت في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2018. وفي كانون الثاني/ يناير الفائت، في إطار النقاش الذي جرى بشأن مشروع قانون يرمي إلى محاربة المقاطعة ضد إسرائيل، نشرت طليب تغريدة قالت فيها إن من يؤيد هذا القانون "نسي إلى أي دولة ينتمي". وبعد ذلك ببضعة أسابيع لمّحت عمر، في تغريدة خاصة، إلى أن منظمة "أيباك" "تشتري" أصوات المشرّعين الأميركيين ("it's all about the Benjamins, baby")، ثم إلى ضرورة بحث ما إذا كان "قسم الولاء لدولة أجنبية يُعتبر أمراً مقبولاً" في الولايات المتحدة. هذه الرائحة المعادية للسامية التي ترافق التلميحات بشأن المال اليهودي الذي يتحكم ظاهرياً، وبحسب الادعاء، في السياسة الخارجية الأميركية، إلى جانب التصريحات بشأن "الولاء المزدوج"، أثارتا عاصفة قوية جداً لم تهدأ بعد.
- تؤشر هذه الأحداث إلى وجهات وتحولات دراماتيكية تحدث في المجتمع الأميركي بصورة عامة وفي السياسة الداخلية الأميركية بصورة خاصة، كما تدل على إسقاطاتها المحتملة على يهود الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء. يبرز في الولايات المتحدة، خلال السنوات الأخيرة بوجه خاص، تعمُّق واحتدام الاستقطاب الجماهيري والسياسي، تعمُّق سياسات الهوية، اتساع الخطاب الشعبوي المصحوب بمظاهر الكراهية الفظة والعنيفة في بعض الأحيان، تنامي تأثير العناصر المتطرفة في السجال العام وفي جدول الأعمال، الهجوم المتصاعد ضد النخب التقليدية والمؤسسات التي تمثل النظام العام وانهيار مبدأ الإجماع الثنائي على الحزب كقاعدة للتشريعات والسياسات. ويشكل هذا الجو العام أرضية مؤاتية لظهور موجات معاداة السامية من جانب اليمين، إضافة إلى مساعي نزع شرعية إسرائيل من جانب اليسار. وتختلط هذه كلها بالنقد المتزايد للسياسة الإسرائيلية، وخصوصاً في مسألة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني ومنهجيات التعامل مع الأقلية العربية في إسرائيل، وكذلك في سياق العلاقات الوثيقة بين إدارة الرئيس دونالد ترامب والحكومة الإسرائيلية.
- شهدت فترة إدارة الرئيس ترامب تعمُّق هذه الوجهات بصورة واضحة، وخصوصاً على خلفية الأسلوب الفظ الذي ينتهجه الرئيس شخصياً، وموقفه النقدي الحاد حيال قطاعات ومؤسسات أميركية متعددة وتفضيله الواضح، أكثر من مرة، شرائح المؤيدين له على حساب النهج الرسمي. والملاحظ أن أسلوب العربدة الكلامية في السجال الجماهيري والسياسي ليس حكراً على قاعدة مؤيدي ترامب من أوساط اليمين المحافظ فقط، بل إن الرئيس نفسه قد هيأ قواعد اللعبة هذه لمعارضيه الكثيرين في الجانب الأيسر من الخريطة السياسية - الحزبية.
- تمتاز موجات الاحتجاج الشعبي ضد الرئيس ترامب بانضمام مجموعات أقلياتية متعددة، مستضعفة في الغالب، ذوات هويات متعددة وأجندات متباينة، وتشكيلها معاً جبهة عمل مشتركة. هذه الظاهرة التي تدعى تقاطع/ تداخل أشكال التمييز (Intersectionality) هي أيضاً المنهج الرئيسي المعتمد في الولايات المتحدة لدفع ظاهرة نزع الشرعية عن إسرائيل. كان الادعاء السائد، حتى مؤخراً، أن الحديث يجري بشأن ظاهرة شعبية هامشية، لا حضور لها ولا تأثير في أي من المؤسسات أو التيارات المركزية. غير أن دخول عمر وطليب إلى الكونغرس يمثل اقتحام هذه الظاهرة لقلب المؤسسة الأميركية ويبدو واضحاً أن لهاتين السيدتين ومؤيديهما تأثيراً متزايداً في السياسة الأميركية الداخلية بصورة عامة، وفي أداء الحزب الديمقراطي وإدارة شؤونه الداخلية خصوصاً (على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من ممثّليه في مجلس النواب مؤيدة لإسرائيل): في البداية تعالت في صفوف الحزب أصوات تدعو إلى اتخاذ إجراءات شخصية ضد كل من عمر وطليب، ثم طُرحت مبادرة لإقرار بيان استنكار لمعاداة السامية في الكونغرس. لكن، بعد أن واجه الحزب صعوبة في التوصل إلى اتفاق بشأن هذا البيان، طُرح على الكونغرس مشروع قرار لإصدار بيان أوسع تضمن إشارة إلى رهاب الإسلام [الإسلاموفوبيا] والكراهية ضد الأجانب أيضاً. وقد كانت هذه تجسيداً للتسوية التي أملتها الأصوات المتطرفة في داخل الحزب، بينما عُرضت النتيجة كأنها انتصار شخصي لعمر التي دفعت نحو صدور إدانة غير مسبوقة عن الكونغرس الأميركي للإسلاموفوبيا.
- بدأ الاستقطاب الداخلي المتصاعد في الولايات المتحدة بإلقاء ظلاله على الدعم لإسرائيل أيضاً، وهو الموضوع الذي ظل محل إجماع مقبول من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء طوال سنوات عديدة جداً. ويتحول دعم إسرائيل بالتدريج إلى مسألة خلافية ترتبط بالحزب الجمهوري بصورة أساسية. وفي إثر جملة التصريحات الإشكالية التي صدرت عن عضويْ الكونغرس الديمقراطيتين، ادعى الرئيس ترامب أن فوز الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها سنة 2020، من شأنه "أن يترك إسرائيل وحيدة" وأنه يلاحظ خروجاً جماعياً لليهود من الحزب الديمقراطي ـ وهو الحملة التي أُطلق عليها اسم "Jexodus" (حملة نظمها وقادها اليمين الجمهوري لتشجيع اليهود على ترك الحزب الديمقراطي) وتبناها الرئيس ترامب لمناكفة الحزب الخصم والطعن به. ومع ذلك، ما زال من السابق لأوانه الجزم ما إذا كان لهذه الظاهرة امتداد في الواقع: المعطيات المتوافرة من دراسات عميقة واستطلاعات للرأي العام أُجريت خلال العقدين الأخيرين تبيّن أن يهود الولايات المتحدة الذين يشكلون نحو 2% من مجموع السكان في الدولة، هم الأقلية الأكثر ليبرالية في الدولة وأن نسبة مؤيدي الحزب الديمقراطي بينهم تزيد على 70%. مع ذلك، لم تكن مسألة الدعم لإسرائيل تشكل، حتى الآن، أحد الاعتبارات الجدية المركزية في كيفية تصويت يهود الولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية.
- بالإضافة إلى الفجوة الآخذة في الاتساع ما بين الحزبين الكبيرين في مسألة دعم إسرائيل، نشر معهد "غالوب" في آذار/ مارس الفائت استطلاعاً للرأي العام أشار إلى ظاهرة أُخرى، حزبية داخلية: فارق يتراوح بين 25% و29% بين الأطراف على قوس المصوّتين للحزبين المركزيين، الجمهوري والديمقراطي، في مسألة الدعم لإسرائيل. فحين تم تصنيف مؤيدي الحزبين إلى أربع مجموعات، تبعاً للمواقف، على سبيل المثال - ديمقراطيون ليبراليون، ديمقراطيون معتدلون، جمهوريون معتدلون وجمهوريون ليبراليون - ظهرت فجوة كبيرة جداً، بل هوة سحيقة، في عدد المؤيدين لإسرائيل الذين يزيدون بـ 81% على المؤيدين للفلسطينيين بين أعضاء التيار المحافظ في الحزب الجمهوري، في مقابل مؤيدي إسرائيل من التيار الليبرالي في الحزب الديمقراطي الذين يزيدون بـ 3% فقط على مؤيدي الفلسطينيين في التيار ذاته. هذه الفروق في مسألة تأييد إسرائيل بين صفوف الحزب الديمقراطي قد تضع مؤيدي الحزب اليهود، في المستقبل غير البعيد، وبصورة اضطرارية، أمام ضرورة الاختيار ما بين الحزب كبيت سياسي وقِيمي وبين تأييدهم لدولة إسرائيل. إن المثال المتطرف لذلك هو المعضلة التي يواجهها يهود بريطانيا المؤيدون لحزب العمال، حيال ظواهر معاداة السامية ومعاداة الصهيونية المتصاعدة بين صفوفه.
- تنطوي هذه التطورات على دلالات كبيرة الوزن والأهمية بالنسبة إلى إسرائيل:
- أولاً، الحكومة الإسرائيلية تتماهى تماماً مع سياسة الرئيس ترامب وتجد صعوبة جدية في المحافظة على علاقات جيدة مع الحزب الديمقراطي وممثليه. ما من شك في أن علاقات العمل الجيدة بين إسرائيل والولايات المتحدة تشكل رصيداً مهماً جداً وعاملاً حاسماً في الأمن القومي الإسرائيلي، إلاّ إن التماهي المطلق مع واشنطن يضع أمام إسرائيل مصاعب جدية في مجال علاقاتها مع معارضي الرئيس ترامب الكثيرين في مختلف أنحاء العالم، في الولايات المتحدة نفسها وبين مجموعات اليهود الأميركيين أيضاً. وقد برزت هذه المصاعب بصورة حادة جداً في ضوء مظاهر معاداة السامية من اليمين التي رفض الرئيس ترامب استنكارها بصورة واضحة وحازمة (كما في أحداث شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا سنة 2017)، وكذلك في شعور أوساط واسعة من اليهود الأميركيين بأن المذبحة في كنيس مدينة بيتسبرغ (في ولاية بنسلفانيا) في أواخر سنة 2018 كانت إحدى ثمار معاداة السامية التي عادت لترفع رأسها في عهد إدارة الرئيس ترامب.
- ثانياً، فجوة تتعمق باستمرار بين يهود الولايات المتحدة ودولة إسرائيل تعود جذورها إلى خلافات في الآراء والمواقف في شؤون دينية وقِيمية وسياسية. في المستوى الديني، يشعر كثيرون جداً من الأغلبية غير الأرثوذكسية التي تشكل نحو 90% من يهود الولايات المتحدة، بالإساءة جرّاء عدم اعتراف إسرائيل بيهوديتهم. وفي المستوى القِيمي والسياسي تتعالى بين يهود الولايات المتحدة، الليبراليون، في أغلبيتهم الساحقة، انتقادات متزايدة ضد إجراءات غير ليبرالية وغير ديمقراطية، من وجهة نظرهم، اتخذتها الحكومة الإسرائيلية، مثل "قانون القومية" وسياستها حيال مسألة الصراع مع الفلسطينيين.
- تمثل هذه الظواهر والوجهات مصدر خطر وتهديد على اثنين من الأرصدة الأكثر حيوية لأمن دولة إسرائيل القومي: الأول - منظومة العلاقات المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة. فالفترة الحالية، التي تشهد ذروة في العلاقات الحميمة بين الحكومتين، تحمل في المقابل أيضاً تحدياً متصاعداً يتمثل في صيانة التأييد الجماهيري والسياسي من كلا الحزبين لدولة إسرائيل، باعتباره الدعامة المركزية للعلاقات بين الدولتين. والثاني- التماسك الداخلي بين يهود الولايات المتحدة والعلاقة بينهم وبين دولة إسرائيل. يمكن التقدير أن مسألة تأييد إسرائيل ستكون، لأول مرة، مسألة مركزية في السجال السياسي الذي سيجري في الولايات المتحدة خلال الحملة التمهيدية لانتخابات الرئاسة في سنة 2020. وعلى هذه الخلفية يُتوقع أن تزداد أهمية التحدي الماثل أمام هذين الرصيدين، أكثر مما هي عليه الآن بكثير.
- لذا يجب أن تكون المحافظة على هذين الرصيدين على رأس سلم أولويات صناع القرار في إسرائيل:
- على حكومة إسرائيل تجنُّب التدخل في السياسة الداخلية الأميركية وتجنُّب تفضيل طرف على آخر، وخصوصاً حيال اقتراب بدء حملة الانتخابات الرئاسية. يجب تعزيز قنوات الحوار مع الحزب الديمقراطي وممثليه، بموازاة المحافظة على العلاقات الوثيقة مع الحزب الجمهوري.
- ثمة حاجة إلى نشاط إسرائيلي واسع، بدعم مؤيديها في الولايات المتحدة، من أجل تعزيز التأييد والتعاون مع قطاعات شبابية ليبرالية ـ تقدمية ومع مجموعات نامية مهمة، بينها الهسبان والأميركيون الأفارقة. هذه قاعدة ضرورية من أجل المحافظة على تأييد كلا الحزبين لإسرائيل وكأداة لمحاربة معاداة السامية والتصدي لحملات ضرب شرعية إسرائيل.
- يجب بذل جهود مشتركة مع يهود الولايات المتحدة من أجل تطوير منظومة العلاقات المتبادلة، مع التركيز على اليهود الشبان الليبراليين الذين تشهد علاقتهم بإسرائيل تراجعاً واضحاً، وكذلك انتماؤهم إلى المجتمع اليهودي في كثير من الأحيان.
- عملية اتخاذ القرارات في إسرائيل ـ في القضايا الخارجية والقضايا الداخلية على حد سواء ـ تستوجب البحث المسبق في الإسقاطات المحتملة على كل من هذين الرصيدين الحيويين.