اقتحام جنين هو مقدمة لتجديد الاستيطان في شمال الضفة
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • جيش تبدو معداته كأنها من فيلم خيال علمي، يهاجم قبيلة للهنود الحمر. تقريباً، هذه هي موازين القوى، ومن هذه الناحية، يتحول الفلسطينيون في مخيم جنين إلى أبطال. المواطنون، كالعادة، هم أبطال رغماً عنهم. أما مَن اختاروا حمل السلاح وحاولوا مهاجمة الغزاة - فإن بطولتهم وشجاعتهم (وأيضاً لامبالاتهم بالموت، لأنهم منذ ولادتهم  لا يوجد أفق لحياتهم )، لم تستطيعا خلال الـ23 عاماً الماضية إيقاف الخطة الإسرائيلية العليا: ضمان أن يتم ضم أغلبية الضفة الغربية فعلياً إلى إسرائيل، وفصلها عن الفلسطينيين، عبر حشرهم في معازل محددة.
  • حكومات إسرائيل، الواحدة تلو الأُخرى، دفعت بهذه الخطة - وكل يوم يتبين من جديد كم أنها استراتيجية محسوبة، لديها الكثير من المفكرين، والعديد من أذرع التنفيذ. وبصدق، يقول الداعمون للكفاح المسلح إن تكتيك الدبلوماسية والمفاوضات الذي التزم به رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لم يوقف جشع التوسع الإسرائيلي، ولا تجاهل إسرائيل منذ اليوم الأول لاتفاقيات "أوسلو" وللفهم الدولي بأن المستوطنات تتناقض مع "مسار السلام" ويجب وقف بنائها. إلاّ إن ما يسمى "الكفاح المسلح" أيضاً لم يوقف خلال الثلاثين عاماً الأخيرة السعي الإسرائيلي للسيطرة على الأراضي الفلسطينية وقتل الطموحات القومية الفلسطينية. وفي كل الأحوال، كان أكثر من مرة مبرراً لهذه السرقة - كبناء الجدار الفاصل ومنطقة خط التماس حوله، التي يُمنع الفلسطينيون من الاقتراب منها.
  • إخلاء المستوطنات في قطاع غزة - الذي تقدمه "حماس" كانتصار وكإثبات على نجاعة الكفاح المسلح - خدم هدفاً إسرائيلياً آخر: الاستمرار في تقسيم المجتمع الفلسطيني وإدخاله في تقسيمات منفصلة داخل معازل، الواحدة معزولة عن الأُخرى، وفي الوقت نفسه، تعميق الاستيطان في الضفة الغربية، وضمنها شرقي القدس. إخلاء المستوطنات الأربع في شمال الضفة في سنة 2005 لم يغيّر الكثير: إسرائيل لا تزال تصنّف المنطقة التي بُنيت فيها هذه المستوطنات على أنها "منطقة ج"، ومنعت الفلسطينيين من استعمالها وتطويرها، بحسب حاجاتهم، حتى بعد إخلاء المستوطنين. المواقع المُخلاة هناك بقيت على حالها، بالانتظار، حتى تغيرت الظروف السياسية وبات هناك إمكانية لإرجاع الساعة إلى الوراء.
  • يجب أيضاً قراءة الهجوم على "قبيلة" لاجئي جنين في هذا السياق - وليس فقط في سياق محاكمة نتنياهو، واعتماده على أحزاب المستوطنين والتظاهرات ضد الانقلاب القضائي. حكومة نتنياهو سموتريتش - بن غفير - ليفين أبطلت قانون "الانسحاب" من شمال الضفة. وعلى أراضي برقة وسيلة الضهر تنمو "المدرسة الدينية" - الاستيطانية "حومش" وتتوسع، برعاية الجيش. وفي الواقع، برعاية الجيش ومساعدته، فرضت وجودها على أصحاب الأرض قبل إبطال القانون بكثير.
  • تبقى ثلاثة مواقع يستهدفها إلغاء القانون: ما كانت سابقاً مستوطنات "شانور"، و"كيديم" و"غانيم"، وجميعها في محافظة جنين. الخبرة المتراكمة تسمح لنا بأن نقدّر أن القيادة العليا - حركات المستوطنين بأنواعهم المختلفة وممثليهم في الحكومة، يخططون منذ الآن لإسكان هذه المواقع من جديد. وفي المقابل، يمكن قبل ذلك توقُّع أن يقام هناك بعض المزارع التي يقودها أفراد وتبدو عفوية مع قطعان من المواشي والأبقار، أما الميليشيات الخاصة والتمويل الكبير فستسمح لبعض العائلات المتدينة من الحسيديم بممارسة فريضة سرقة الأراضي الفلسطينية. وذلك، مع مزيج من التوابل المعروفة، كقلع الأشجار، وإشعال الحرائق، وسرقة المحاصيل، وإغلاق الطرقات، وإطلاق النار هنا وهناك، وأيضاً المذابح المباشرة التي لم تعد تكتفي بالهجوم وإخافة راعي مواشٍ واحد أو فلاح، بل باتت تتوجَّه ضد قرية كاملة.
  • الألف جندي، والطائرات، والمسيّرات التي تقصف، بالإضافة إلى غرف القيادة والجرافات، ومئات المركبات المدرعة وأحدث ما تعرفه التكنولوجيا الدقيقة، والذي من الصعب حتى تخيّله، هذا كله يهدف إلى عملية إخضاع مسبقة - قتل، واعتقال، وإصابة، وردع، وإخافة - كل ما يمكنه التشويش على تنفيذ إلغاء قانون "الانسحاب".
  • الفجوة الكبيرة في موازين القوى تنعكس، كالعادة، أيضاً في مجال توفّر المعلومات: المتحدثون باسم الجيش والشرطة و"الشاباك" ينشرون التفاصيل المختارة التي لديهم مباشرة: إذا أرادوا يكثرون من التفاصيل، وإذا أرادوا يقلّصون التفاصيل. الأمر الأساسي أن المجتمع الإسرائيلي يتعامل معهم على أنهم يعرفون كل شيء، وبموضوعية كما يبدو. وعندما ينشرون صور حاويات مع وقود ويكررون، المرة تلو الأُخرى، كلمات "بنى إرهاب" و"مختبرات تصنيع متفجرات" في قلب المناطق السكنية المدنية، من الصعب على الإسرائيليين أن يتجاهلوا أن قواعد الجيش و"الشاباك" ومكاتب وزارة الدفاع وهيئة القيادة العليا للجيش، جميعها تعمل من قلب المناطق السكنية المدنية بصورة واضحة. ويجب عليهم أيضاً أن يتجاهلوا أن كتيبة واحدة من الجنود، أو من "حرس الحدود"، مسلحة أكثر من كل المخيم. لا يتذكرون، لذلك أيضاً يستطيعون أن ينسوا أن إسرائيل هي القوة القائمة بالاحتلال التي فرضت نفسها على الفلسطينيين.
  • المعلومات الأُخرى التي تظهر من الميدان جزئية وشحيحة. وذلك لأن الجيش هدم بنى الكهرباء في المخيم، وباتت بطاريات الهواتف المحمولة فارغة، ولأن الناس مشغولون بإنقاذ أنفسهم والآخرين، ولأن المواطنين لا يرون أكثر من قطعة صغيرة من الطريق الذي تهدمه الجرافة العسكرية الآن، ولأن السلطة الفلسطينية لم تبنِ أي منظومات تقوم بتمرير المعلومات الموجودة لديها (باستثناء وزارة الصحة والهلال الأحمر وبعض المحافظات). علينا أن نجمع المعلومات من الأشخاص الذين عاشوا بأجسادهم القصف، والهدم، والرعب، وهو ما سيغدو ممكناً فقط بعد انسحاب القوات الإسرائيلية الكبيرة التي تم إرسالها لهدم مخيم اللاجئين في جنين مرة أُخرى.
  • نحن نعلم منذ الآن بأن الآلاف من سكان المخيم أرغموا على ترك منازلهم يوم الاثنين مساءً (هناك مَن خرجوا بعد أن أمرهم الجيش بذلك، آخرون "اختاروا" الخروج لأنه لا يمكنهم البقاء من دون ماء). الآن، وهم خارج المخيم، يتنقلون ما بين المدارس أو الأقارب في القرى المجاورة، لا يعرفون إلى أي واقع سيعودون، وبأي حال سيجدون منازلهم عندما يعودون: مدمرة، وأبوابها وجدرانها محطمة، والقلة من الأغراض مسروقة، وكذلك صورة الجد بالكوفية ممزقة، والتلفاز الذي دفعوا ثمنه من توفيراتهم قد تحطم بفعل الرصاص، وأكياس الأرز والسكر ممزقة ومرمية على الأرض.

عندما نستطيع أن نلتقي سكان المخيم، سيتضح على الأقل جزء من التفاصيل: هل كان فعلاً أبناء الـ16 والـ17 عاماً مسلحين حين قتلهم الجيش، أو كانوا يلقون الحجارة على جيب مدرع. سنعرف عدد المعتقلين وأين هم، ويكون لدينا فكرة دقيقة عن حجم الدمار الذي تركه الجيش خلفه. وحينها، ستكون هذه أخبار الأمس، غير المهمة بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي.

 

المزيد ضمن العدد