أنا أرفض "الصحوة"

فصول من كتاب دليل اسرائيل

المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • خلال الشهر الأخير، أسمع كثيراً عن أشخاص "أصابتهم الصحوة". بعد المذبحة الصعبة التي جرت لسكان جنوب البلد، والحرب التي جاءت بعدها، يحتاج الإنسان إلى آلة حاسبة، وإلى أن يكون صاحب قلب من حديد لحساب عدد الضحايا من دون دموع، والخسارة الكبيرة في الأرواح، والأحلام والآمال التي تبخرت في لحظة، باللغتين العربية والعبرية. صعب، صعب جداً، الهروب من الأقوال الآخذة بالازدياد بشأن أشخاص باتوا الآن يرون الواقع "كما هو"، و"يفهمون"- أخيراً - مَن هم "العرب" الذين يعيشون في هذه المنطقة. يشرحون - بعضهم بصوت متردد حتى الآن - أن كل الأحاديث عن "السلام" و"العدالة" هي أمور تلائم الغرباء في أوروبا، لكنها ليست ملائمة لنا، نحن اليهود، الذين نعيش في الشرق الاوسط.
  • هؤلاء الذين "صحوا"، يعرفون الآن أن الفكرة التي كنا نقاتل من أجلها أعواماً طويلة ليست واقعية. لقد "صحوا" من الوهم، والآن يعلنون: دولتان- هو شيء سيئ، ونطلب منكم، من فضلكم، اتركونا خلال الحرب، ولا تتحدثوا معنا عن المستقبل. بعد ذلك، سنتحدث عن "اليوم التالي". حالياً، غزة تحترق، ولتذهب كلمة "سلام" إلى الجحيم.
  • لا أستطيع أن أصحو إزاء إمكان صُنع السلام. وأكثر من ذلك. حتى بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم تتغير قناعتي بأن حل الدولتين هو ليس فقط الحل الأمثل للوصول إلى العدالة، بل الحل الأكثر إنسانيةً، وهو أيضاً الحل الواقعي الوحيد. أنا أعود وأذكّر أصدقائي، من اليهود والفلسطينيين معاً، بأن كل مَن يعتقد أن معاناة الطفل الغزي ليست مختلفة، ولا للحظة، عن معاناة طفل في كيبوتس في "غلاف غزة"، وعليّ أن أصرخ في كل مفترق طريق: حل الدولتين، هو الحل الوحيد. لا وقت لدينا لإضاعته.
  • من المهم القول أيضاً لأصدقائي اليهود إن مجموعة الذين "صحوا" من اليهود هذا الشهر، تنضم إلى مجموعة كبيرة من الفلسطينيين "الذين أصابتهم الصحوة" (في إسرائيل وخارجها)، وتدّعي منذ أعوام طويلة، أن الاحتلال لن ينتهي قط، وأن تركيبة الحكومة الحالية وسياساتها هي مثال إضافي على أن سياسة إدارة الصراع لا تتعلق بحكومة واحدة، بل ممتدة. وفعلاً، هم أيضاً يطالبون بـ"الصحوة" من الأوهام بشأن نهاية الاحتلال وتقسيم البلد. بصدق، كيف يمكن أن تكون "الصحوة" من وهم الحياة المشتركة الممكنة، عندما يفكر وزير في الحكومة في إلقاء قنبلة نووية على أبناء شعبي في غزة؟
  • إلا إنني أرفض الصحوة إزاء حلم الحياة المشتركة. لا أصحو، على الرغم من أنني قرأت في كتاب بيني موريس عن "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947-1979"، وكيف هجّروا بالقوة مئات الآلاف من أبناء شعبي خلال النكبة؛ ولا أصحو، حين أنظر إلى صور مدينتي، حيفا، بعد الـ48، وأرى كيف سرقوا ودمروا بيوت سكانها العرب كي لا يعودوا (اقرأوا ذلك في كتاب المؤرخ آدم راز "سرقة الأملاك العربية"). ولا أصحو، حتى بعد أن أقرأ كيف خربوا وحرقوا الحقول كي يمنعوا الفلسطينيين من العودة إلى قراهم. أنا أرفض الصحوة، حتى بعد زيارة أماكن شهدت جرائم حرب ومذابح ضد الفلسطينيين طوال أعوام.
  • رفضت الصحوة أيضاً عندما حضرت في العام الماضي ذكرى مجزرة كفر قاسم، يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر، وقرأت بالتفصيل في كتاب راز "مجزرة كفر قاسم سيرة سياسية"، وما الذي كان خلف المجزرة. أنا أرفض الصحوة عندما أتحدث مع لاجئين تم تهجيرهم في حرب الـ67 من بيوتهم التي عاشوا فيها منذ قرون، ومُنعت عودتهم إليها؛ ولا أزال أرفض الصحوة عندما ألتقي ضحايا الانتفاضتين الأولى والثانية، اللتين حصدتا آلاف الضحايا.
  • أنا أرفض الصحوة، على الرغم من أنني درست عن محاولات تسميم المياه في القرى العربية (انظروا إلى بحث بيني كيدار وموريس، والذي نُشر في العام الماضي)، وعن اغتصاب الفلسطينيات (كفضيحة نيريم)، وعن سياسة إطلاق النار التي لا يحاسَب عليها إلا قلة، وعن سياسة عدم محاكمة الجنود بسبب جرائم حرب كثيرة حدثت. أنا أرفض أن أصحو، حتى عندما أرى ما تقوم به حكومة إسرائيل في المناطق المحتلة: كيف تسرق الأراضي والموارد، وكيف تذل الفلسطينيين الضعفاء من دون حماية، وكيف تسمح للمستوطنين بالقيام بكل ما يريدونه، وللأسف، القائمة طويلة.
  • لم أصحُ، حتى بسبب الحصار الممتد أعواماً طويلة على غزة، وحتى بعد 4 حروب قتلوا فيها آلاف الغزيين، وحتى بعد أن سمعت أن الأمم المتحدة أعلنت في سنة 2020 أن غزة لم تعد مكاناً صالحاً للحياة، بسبب الظروف الإنسانية الصعبة. وبعد ذلك بـ3 أعوام، لا أزال أرفض الصحوة.
  • ليس فقط أنني لم "أصحُ"، أنا أيضاً لا أقارن. لا حاجة إلى المقارنة بين الأفعال السيئة والأُخرى السيئة. ذلك بأن سعر الدماء، فلسطينياً كان أم إسرائيلياً، يتراكم ويرفع السعر المشترك للشعبين اللذين يدفعان لآلهة الحرب. ألمُ كارثة عائلة غزية دُفنت تحت الأنقاض، يندمج في ألمِ كارثة عائلة شابة قُتلت في "غلاف غزة". الأحلام التي تبخرت هي الأحلام نفسها، ونحن الفلسطينيين والإسرائيليين، الذين بقينا لعدّ أمواتنا، لا نزال في بئر العزاء، والخروج منه، لا يبدو في الأفق.
  • "الصحوة"، معناها التنازل. التنازل عن الحلم البسيط بالحياة العادية، حيث السياسة ليست إلا جزءاً بسيطاً من حياة المواطنين، ولا تسيطر على كل بقعة جيدة من حياتهم اليومية. الحياة الطبيعية، بما معناه الحياة، حيث اللحظات الأهم، هي لحظات الولادة والزواج والتخرج من المدرسة أو الجامعة. حياة، العزاء فيها قليل جداً. حتى لو "صحونا" من رؤية الحياة الطبيعية، ماذا سنقول لأولادنا حين يسألون متى ستنتهي الحرب؟ متى نعود إلى المدرسة؟ ومتى نعود إلى لعب كرة القدم مع أولاد الحي؟ متى ستتوقف الأم عن البكاء؟
  • 7 ملايين يهودي، و7 ملايين فلسطيني، لن يذهبوا إلى أي مكان. مصير الشعبين يندمج، الواحد في الآخر، ولا خيار لدينا إلا البحث عن حل يستطيع فيه الطرفان أن يعيشا هنا حياة عادية، الواحد إلى جانب الآخر. علينا أن نفهم أنه لا يوجد أي طريق إلا طريق السلام. هذه هي الصحوة الحقيقية.
 

المزيد ضمن العدد