الإسرائيليون بحاجة إلى أكاذيب الناطق بلسان الجيش، لكي يواصلوا التصديق أنهم منتصرون
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- ظهيرة أحد أيام الجمعة في شهر أيار/مايو 2021، في ذروة حملة "حارس الأسوار" [معركة سيف القدس]، انتشرت عبر مجموعات واتساب الإسرائيلية، بصورة شديدة الاتساع، رسالة صوتية. نُسب هذا التسجيل إلى عميكام نوركين، قائد سلاح الجو آنذاك، الذي كان يتحدث عن حملة قصف أنفاق "حماس" في القطاع. لكن اتضح لاحقاً أن المتحدث كان المراسل العسكري العامل في موقع "واللا"، أمير بوحبوط.
- "يا أصدقاء، لا أعلم ماذا تعتقدون أو تعرفون، لكن هذه الأيام الشديدة التعقيد والصعوبة، هناك قتلى أيضاً في الجبهة الداخلية، وفي صفوف الجيش، لكن هذه الليلة (بدا صوت الرجل متحمساً كما لو كان المتحدث يائير نتنياهو [ابن رئيس الوزراء] من أحد المنتجعات في ميامي)، أشعر بالتأثر حقاً. ليس في إمكاني أن أحكي كل شيء، لكن الجيش الإسرائيلي قلب الموازين هذه الليلة، لقد مزّقناهم بكل بساطة، هذه واحدة من الحملات الكبرى التي نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي، إحضار أكثر من 160 مقاتلة جوية خلال أقل من نصف ساعة إلى حيّز شديد الضيق، إلى منطقة هي من أكثر المناطق اكتظاظاً في العالم، وإلقاء 450 قنبلة، والانسحاب، من دون ضرر، والقضاء على جميع أنفاقهم، ومنصات الصواريخ التحت أرضية التي يملكونها. ولم يقتصر الأمر على أنهم لم يطلقوا الليلة أي صاروخ على تل أبيب، بل هم لا يزالون مصدومين مما فعلناه بهم، ثم، بعد ذلك، قمنا بعملية تضليل رائعة، لا يمكنني التحدث عن هذا أيضاً، لكنني حقاً متحمس، إنني أطلب من كل الذين يحتفلون هذا المساء بقدسية يوم السبت، أن يباركوا جنود الجيش ويصلّوا لنجاحهم، آمين".
- هذا الأسبوع، تذكرت ذاك التسجيل الصوتي الذي عمّمه بوحبوط، لدى سماعي التقرير الذي عمّمه الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، العميد دانييل هغاري، بشأن الكشف عن نفق ضخم لـ "حماس"، يمر من جباليا نحو معبر إيرز، وهو نفق شديد الاتساع إلى حد أن سيارة يمكنها التنقل فيه. أين ذهبت تلك الحماسة التي سمعناها، آنذاك، بشأن "القضاء على جميع أنفاق ’حماس‘" في ذلك التسجيل الصوتي، وأين نحن من أنفاق اليوم؟ إليكم القصة: لقد تمّ إطلاق عملية دعاية سياسية موجهة إلى الجمهور الإسرائيلي منذ حملة "حارس الأسوار"، تهدف إلى إقناعنا بأن جيش الدفاع عظيم، وأنه لا مثيل لسلاح الجو الإسرائيلي في العالم بأسره. أن "حماس" تلقت ضربة خطِرة، ضربة "مميتة". هذه الكلمة التي يؤثِرها الإسرائيليون. وإليكم جملة أُخرى يحبونها "لقد استعدنا قدرتنا على الردع". كما اجتمع الساسة وجنرالات الاحتياط والصحافيون، معاً، في حملة دعاية سياسية كاذبة انفجرت في وجوهنا صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لكن علينا ألّا نلوم سوى أنفسنا. نحن الإسرائيليين، نحب مَن يكذب علينا. إن خلاصة عمل الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي تتمثل في التقاط كمية مناسبة من الهراء، ثم تغليفها، ورشّها بالعطور، ثم بيعها لنا كما لو كانت طعاماً شهياً. في نهاية المطاف، لا أحد بيننا يريد أن يسمع أن لدينا جيشاً متواضعاً، لديه معلومات استخباراتية فاشلة، وأن جماعة "إرهابية" قادرة على تركيعه على ركبتيه.
- الكذب في إسرائيل هو مهنة. سلعة عليها طلب شديد هنا. أما مَن يسعى لقول الحقيقة، فيُعتبر جزءاً من الذين ينشرون الكآبة في أوساط الشعب، وسرعان ما يتهمونه بأنه يساري، أو يعمل في صحيفة "هآرتس"، أو لمصلحة قناة الجزيرة، أو بأنه حقود. صناعة العظمة والفخر القوميين تتباهى بكل ما يقوم به الجيش الإسرائيلي. تنهمر الدموع وتتعالى التنهدات لدى قراءة تحقيق في ملحق يوم الجمعة من صحيفة "يسرائيل هيوم" [اليمينية] بشأن التعاون بين ضابط من المظليين، وصديق له من سلاح المدفعية [بعد سنوات من العداء بين اللواءين].
- لم يتركوا شيئاً، ولا زاوية لم يتحدثوا عنها بشأن قصف الأنفاق في حملة "حارس الأسوار"؟ لقد وصفوا هذه الحملة بأنها حملة رائعة لا مثيل لها؛ يقولون إنها بدأت أصلاً بعملية تضليل، ليس من الواضح ما إذا كان مقصوداً، عندما كتب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، بالإنكليزية، تغريدة بأن الجيش دخل إلى القطاع براً. كان من المفترض أن تدفع هذه التغريدة "المخربين" إلى الاحتشاد والتكدس داخل الأنفاق، لكي يتمكن سلاح الجو من إنهاء العمل.
- "لقد وجّهنا ضربة قاصمة إلى النشاط التحت أرضي الخاص بـ’حماس‘"، صرّح نتنياهو في خطابه الموجه إلى الأمة في المؤتمر الصحافي. "لقد بددت ’حماس‘ عقداً كاملاً، وثروة طائلة في حفر الأنفاق، وأغلبية هذه الأنفاق، ليس جميعها، بل إن جزءاً كبيراً من هذه الأنفاق، صار هباء منثوراً. لقد تحول مترو "حماس" من كنز استراتيجي إلى فخ يموت فيه المخربون". وأضيف إلى هذه الأقوال، تصريحات وزير الدفاع، آنذاك، بني غانتس: "قام الجيش الإسرائيلي على مدار الأيام الماضية، تحت قيادة وريادة رئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي، بتحويل شبكة الأنفاق الغزية، وأنفاق تخزين الوسائل القتالية، والمخابئ التحت أرضية، إلى فخّ مميت. وتحولت الأنفاق من ’مترو حماس‘ إلى ’قطار نحو جهنم‘. هذا إنجاز استراتيجي في الحرب ضد "حماس"، يحطم تصوراتها، وعقيدتها العسكرية".
- في أثناء شبابي، جلست مع مراسل عسكري أكبر مني بعشرات السنوات. حدثني الرجل عن اللحظة التي قرر فيها أن يصبح صحافياً، عندما كان يقضي حاجته في إحدى الحفر [من شدة الخوف] في أثناء "حرب الغفران"، بعد ساعة من قراءته صحيفة تصف مدى نجاحنا في ضربهم. حينها، قرر أن يصبح صحافياً، وأن يقول الحقيقة للجماهير. أين هذا الرجل من المراسل العسكري يوآف ليمور في صحيفة "يسرائيل هَيوم"، الذي كتب بشاعرية وحماسة، في سنة 2021: "لقد استثمرت "حماس" في هذه الأنفاق المليارات من الدولارات، وعدداً لا نهائي من ساعات العمل البشري، وكانت متأكدة من أن هذه الأنفاق توفر لها الحصانة. بدلاً من ذلك، تحولت ورقة "حماس" السرية الرابحة إلى فخ مميت. وعندما تنتهي المعركة، وتأتي مرحلة التعلم واستخلاص العبر، ستكون "حماس" مجبرة على الإجابة عن هذا السؤال أمام نفسها: ليس فقط كيف حُرمت من أكبر قدراتها العسكرية، بل ما الذي يعنيه الأمر مستقبلاً: هل تحول مشروع أنفاق "حماس" من حل إلى مشكلة؟".
- المراسل نير دفوري أضاف إلى هذه الأقوال، في تويتر، قائلاً: "لم يأتِ من فراغ أن الجهات الأمنية قالت في الماضي إن "حماس" لا تدرك أن أنفاقها ستتحول إلى مقابر جماعية. كان الجيش يخطط منذ ذلك الحين كيف يحول تهديد الأنفاق إلى فرصة للإسرائيليين، وهذا هو بالضبط ما جرى بالأمس".
- أظهرت تحقيقات لاحقة أجراها عاموس هرئيل، في "هآرتس"، وطال ليف رام في "معاريف" أن كل تلك القصة لم تكن سوى مجرد خدعة. كانت خداعاً للذات، وكذباً على النفس. أما إيلانا دايان، التي قامت بإجراء تحقيق استقصائي عبر برنامج "عوفداة" التلفزيوني، استضافت فيه قائد لواء الجنوب، إليعازر توليدانو، الذي قال إن "إسرائيل نجحت، كحد أقصى، في قتل عشرة ’مخربين‘ في المترو". بحق الرب. أهذا ما تسمونه فخاً جنونياً مميتاً؟! لكن هذا ليس مهماً. لقد تم تثبيت السردية. ها قد تحقق نصر الناطق بلسان الجيش علينا جميعاً.
- بات لزاماً على إسرائيل الإقلاع عن إدمان كثير من الأشياء، وأهم ما يجب عليها الإقلاع عنه، هو الكذب على نفسها. نحن نغدق المديح على حملات الـ "هسبراة"، و"إيصال الرسائل"، و "نشر مقاطع الفيديو"، من دون أن ننتبه إلى أن الجمهور المستهدف الأساسي من هذا كله هو نحن، لا الشعوب في الخارج. نحن نعيش منذ 15 عاماً في ظل رئيس حكومة يعتبر الكذب أهم الفنون التي يتقنها، ونشر الهراء هو خبرته الأكبر، وإطلاق التفاهات مصدر رزقه. يشعر ذلك الرجل بأن عليه دائماً أن يُظهر أنه والجيش الإسرائيلي عظيمان، ومحقان، وقويان، ومذهلان، يوجهان إلى العدو ضربات قاتلة، استثنائية، منتصرة، وثابتة. وفي الوقت ذاته، يضمن حصوله على الدعم من الجيش، ومن صحافيي البلاط.
- وكما عدنا، شيئاً فشيئاً، إلى عاداتنا التي مارسناها حتى مساء السادس من تشرين الأول/أكتوبر، فإننا عدنا، بواسطة الدعاية الكاذبة السياسية إلى الشماتة، والهذيان، والتهديدات الجوفاء. ها قد عدنا إلى إطلاق الوعود بأننا سندمر بيروت، ونقصف لبنان، وبأننا على مرمى حجر من تحطيم "حماس". وأننا سنقوم عما قريب باسترجاع المخطوفين نتيجة الضغط العسكري. وبأن حضورنا العسكري على الأرض هو ما سيصنع الفرق. "نحن ننتصر"، كان الشعار المكتوب على خلفية برنامج "إستوديو الجمعة" الإخباري قبل بضعة أسابيع، مع خطاب متحمس من المذيع. وأنا أفهمه حقاً: فمن الممتع حقاً أن نقول لأنفسنا إننا ننتصر، بدلاً من أن نعترف بأننا عالقون ونتعثر.
- يمكن للمرء حقاً أن يتفهم هذا الميل الإنساني البسيط الذي يدفع الإنسان إلى اختيار الاعتقاد أن كل شيء على ما يرام، بدلاً من اعترافه بأن كل ما يحدث سيئ. ويمكن للمرء أن يتفهم تفضيل الناس سماع أخبار عن قدرات وعظمة سلاح الجو، ومقاتلاته الهائلة، والذكاء الاصطناعي، وعباقرة السايبر، وخبراء وحدة التجسس السيبراني 8200، والوسائل المتطورة التي يستخدمها الكوماندوس الإسرائيلي. من الممتع أن نسلّي أنفسنا بتخيل محققي جهاز الشاباك الماكرين والمتطورين، القادرين على إجبار الحجارة نفسها على التكلم، ولديهم وسائل تجسّس في سماعة هاتف يحيى السنوار. ومن المفرح أن نحلم بجهاز الموساد القادر على تنفيذ عملية اغتيال لرئيس البرنامج النووي في وسط إيران. ومن الممتع جداً جداً أن نستمع إلى محللين عسكريين سعداء، بدلاً من الاستماع إلى محللين يقولون لنا في وقت السلم، إن الحرب القادمة آتية، وأن الجيش الإسرائيلي غير مستعد لها، وأننا لسنا أقوياء كما نتمنى، وأن مستوى قيادتنا يتراوح ما بين المتوسط والفاشل. بيْد أن المخدرات لها ثمن. وعلينا أن نكون واثقين بأن اليوم الذي ينتهي فيه مخزون مخدراتنا، هو فرصتنا للإقلاع عنها.