هذه القصة تثبت أن الموت أحياناً لا يُحرّر من السجن
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- بعد وقت قصير من مغادرتنا، اقتحمت القوات المكان، وبدأ عشرات الأفراد من شرطة "حرس الحدود" والشرطة، بقيادة قائد المنطقة، بالضرب والهدم والاعتقالات. لقد جاؤوا إلى منزل العزاء، واقتحموا المكان قبل أن يستوعب سكّانه الخبر المؤلم الذي وصلهم عبْر الإعلام، أن وليد دقة، وهو أحد أقدم الأسرى الأمنيين في إسرائيل، قد توفي، وحيداً من دون أن يُمنح الفرصة لوداع أحبته (سناء زوجته، وميلاد ابنته، ابنة الـ 4 أعوام التي وُلدت من نطفة مهرّبة إلى الحرية، ووالدته التي تُعاني وعمرها 92 عاماً، وإخوته الذين التزموا نضاله من أجل الحرية على مدار 40 عاماً تقريباً من وجوده في السجن). وقد اقتحم أفراد الشرطة العنيفون البيت الذي لم يصل إليه الجثمان بعد. هكذا تجري الأمور في عهد بن غفير، في أيام الشر والسادية.
صورة التقطت لوليد دقة في السجن (عن "هآرتس")
- في ساعات ما بعد الظُهر من يوم الاثنين، جلس الأصدقاء وأبناء العائلة في صف من الكراسي البلاستيكية في الساحة، إلى جانب خيمة عزاء أُقيمت في الوقت نفسه في ساحة منزل خاص. وفي الصباح، كانت الشرطة قد حضرت وطلبت منهم إزالة الكراسي من الساحة؛ ممنوع الجلوس، وممنوع الحزن، وممنوع الألم، وممنوع تقديم العزاء، وقد بات هذا هو الواقع داخل دولة إسرائيل أيضاً، في باقة الغربية.
- وفي الساحة الخلفية بعيداً عن عيون الجميع، جلس بعض الرجال الكبار السن، العلمانيين، ودخنوا السجائر، وشربوا القهوة في رمضان، وهؤلاء هُم أصدقاء وليد القدامى من السجن، وكانوا حزينين، بعد عشرات السنوات في السجن بسبب أمور خطِرة كان يُحكم على اليهودي بنصف تلك المدة، وبينهم عدّة أسماء معروفة؛ ككريم يونس من عارة، الذي أُدين مع آخرين بقتل الجندي آفي برومبرغ، وتحرّر قبل نصف عام، وقد كان من أكثر الذين شعروا بالصدمة.
- لقد التقيتُ يونس ودقّة في المرة الأولى في سجن شطّة في بداية سنة 2001، في غرفة قائد السجن الذي كان يعلّق صورة الحاخام ملفافويتش [زعيم حركة حباد للحريديم]، قبل نصف عقد تقريباً من وصول بن غفير. ولم تكن المحادثة معهما هدفها النشر، وقد تركتْ فيَّ تأثيراً عميقاً. وفي هذا الأسبوع، التقيتُ يونس في الساحة وسط عزاء دقة، وفهمتُ سبب وجوده؛ فمنذ أن تحرر، سافر حول العالم كطفل يسعى للجولات، وبحث عن زوجة لتكمل معه السفر في حياته الجديدة والمتأخرة، وها هو يبدو جيداً. أمّا دقة، فلم ألقه مرة أُخرى أبداً.
- منذ التسعينيات، وفي الوقت الذي كان لا يزال الأمر ممكناً، كان دقّة يرسل إليّ رسائل من السجن، وغالباً ما كانت رسائله تتحدّث عن أسرى آخرين؛ كأسير مؤبد مصري على سبيل المثال، وهو مريض وتم نسيانه، لكن بفضل رسالة وليد، ونشْرِها في "هآرتس"، حصل على الفرصة للقاء والدته وابنته للمرة الأولى. فضلاً عن أسير مؤبد آخر أعمى كان يأمل أن يسمحوا له بلمس عائلته خلال الزيارات.
- وقبل أن يصبح دقة أقدم الأسرى الأمنيين، كان واحداً من قياداتهم، وبعض رسائله كانت أدبية. ومسرحية "الزمن الموازي"، التي أدّت إلى عاصفة طبعاً في إسرائيل، وأدى عرْضها إلى سحب ميزانيات من مسرح الميدان، تستند إلى الرسالة الطويلة التي كتبها إلى أخي "أبو عمر"، وهو النائب السابق، عزمي بشارة، وقال فيها إنه مع مرور 19 عاماً على سجنه: " أكتب إليكم من الزمن الموازي... إن كثيراً من الأمور في زمنكم قد تغيّرت، ولا يوجد للهاتف سلك، وإطارات المركبات باتت من دون إطار داخلي... نحن هنا عالقون في الزمن الموازي، منذ ما قبل الحرب الباردة، وقبل انهيار جدار برلين، وقبل مدريد وأوسلو، وقبل الانتفاضة الأولى والثانية، حتّى قبل الهواتف الخليوية..." وأضاف: "الذاكرة هي الأداة الوحيدة التي نملكها. أنّى لي أن أنسى التطلّع إلى التجاعيد في وجه أمي، والنظر إلى شعرها الذي باتت تصبغه بالحنة لإخفاء الشيب، كي لا أسألها عن جيلها الحقيقي. وما هو جيل أمي الحقيقي؟ لا أعلم. لدى أمي عمران؛ العمر على محور الزمن الذي لا أعرفه، وعمر الاعتقال، الزمن الموازي، وهو 19 عاماً." في هذا الأسبوع، كانت تجلس فريدة، ابنة الـ 92 عاماً، في غرفتها في بيت العائلة، وهي الآن منعزلة كلياً عن المحيط. وكانت لسنوات تُسمّى "أم الأسرى"، لأنها خلال زياراتها، كانت تهتم بالجميع. وفي المرة الأخيرة التي التقيتها فيها، سنة 2014، صوّرها أليكس ليباك عندما كانت تتحسّس صورة ابنها.
- لقد أُدين دقّة في سنة 1987 لكونه جزءاً من خلية قتلت الجندي موشيه تمام، على الرغم من أنه لم يكن مشاركاً فعالاً في القتل، وحينها كان عمره 26 عاماً، ومات هذا الأسبوع وعمره 63 عاماً. إن 38 عاماً هي حياة كاملة تقريباً؛ النضوج والشيخوخة من دون يوم حرية واحد. قليل هو عدد الأسرى الذين قضوا هذه السنوات في السجن في إسرائيل، وكان يتبدى هناك كُل بضع سنوات أمل بأن يتحرّر، لكن دائماً ما كان ينهار هذا الأمل في اللحظة الأخيرة. وكان الأمل الأكبر يكمن في إطار اتفاق تحرير الأسرى مع السلطة الفلسطينية سنة 2014؛ إذ كان من المفترض أن يتحرّر 14 أسيراً أمنياً يحملون الهوية الإسرائيلية تم اعتقالهم قبل أوسلو، وكان أسعد دقّة، شقيق وليد، الذي سخّر حياته لتحرير أخيه، قد اشترى 200 بالون مضيء، وجبالاً من البقلاوة، وقام بتزفيت الطريق الجديد الذي يصل إلى منزلهم، فضلاً عن كتابة طلبة المدارس عبارة "حرّية" على الجدران، وكل شيء كان جاهزاً لحفلة التحرير، لكن حينها، قررتْ إسرائيل بصورة مفاجئة إلغاء الدفعة الرابعة من دون أي سبب مقنع، وانهار حلم الحرّية.
- وبعدها، أمضى سنوات محكوميته (37 عاماً)، لكن حينها، تورط في قضية الهواتف الخليوية المهرّبة إلى السجن، والتي شارك فيها النائب باسل غطاس، وتم الحكم عليه بعامَين إضافيَين في السجن. وحتّى بعد أن أُصيب بمرض عضال في الأعوام الأخيرة، منعت البيروقراطية في مصلحة السجون تحريره قبل الوقت بحجج متعددة وبواسطة عدد من اللجان. في الأسابيع الأخيرة، اشتد المرض عليه، وعلى الرغم من ذلك، لم تسمح منظومة الشر بالحد الأدنى الإنساني الأساسي، والذي كان يُمنح سابقاً لأسوأ "القتلة"، بالخروج إلى الحرّية، وإمضاء بقية وقت الحياة مع العائلة والأصدقاء.
- وقبل نحو عام، أُدخل وليد دقه مستشفى "أساف هروفيه"، وكانت وجهة نظر الطاقم الطبي لمصلحة السجون إن "أيامه قليلة، وهناك خطر حقيقي على حياته." لكن ذلك لم يساعد، إذ لا يتم تحرير أسير من العرب في إسرائيل، حتّى لو كان مقعداً، وهذا طبعاً في أيام بن غفير. وبعد ذلك، تم نقله مرة أُخرى إلى مستشفى سجن الرملة، ومات هناك. في المرة الأخيرة التي التقى فيها دقة أحد أفراد عائلته، كانت المحامية نادية دقة موجودة، وقالت للعائلة إنه كان يتحرك بكرسي متحرك، وبسبب صوته المخنوق، لم تستطع سماعه من خلف الزجاج الفاصل، وكان هذا قبل 3 أسابيع. وحتى في هذه الأوضاع، لم يسمحوا بتحريره.
- أمّا زوجته سناء، وهي محامية من الطيرة، فقد التقاها سنة 1996، في إطار عملها في "اللجنة من أجل الأسرى"، وتزوجا سنة 1999 في السجن، لكنهما لم يحصلا أبداً على فرصة الزيارة الخاصة. وقبل أكثر من 5 أعوام، حملت نتيجة تهريب نطفة، وتم إرسال دقة إلى العزل عقاباً على ذلك، ولم تعترف الدولة في البداية بأنه والد ميلاد.
بعد عام
- كان يعمل دقة دهّاناً، وعمل في تل أبيب وإيلات، ودهن جدران فندق آفيه سونساتا وطابة. وخلال شبابه، أَسَرَتْه أفكار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصدمه كثيراً، بحسب ما قال، ما قام به الجيش في حرب لبنان الأولى، وضِمْنَهَا مجزرة صبرا وشاتيلا، وانضم إلى الكفاح المسلّح الذي كلّف بعد ذلك مصير الجندي القتيل، وأيضاً حياة وليد نفسه.
- يوم الأحد، سافرت سناء مع ابنتهما ميلاد، وهي طفلة جميلة وشقراء، وبشرتها بيضاء، بالسيارة، وحينها، وصلها عبر شبكات التواصل خبر وفاة وليد، وهذه لم تكن المرة الأولى التي تنتشر فيها أخبار كهذه، لكن قلب سناء قال لها هذه المرة إن الأخبار صحيحة، وأخبرت ابنتها، فبدأت بالصراخ. وعندما التقيتُ سناء في المرة الأخيرة، كان يبدو أن عالمها قد انهار كلياً بعد عشرات الأعوام من الأمل الذي انهار بالكامل؛ فكلاهما كان يأمل أن يمضي بعض الوقت سوياً. وكان يُفترض بوليد أن يتحرر في 24 آذار/مارس 2025. وبعد عام، كان هذا عامه الأخير في السجن. أمّا أسعد، شقيقه، فقال إنه وفي الوقت الذي كانت لا تزال هناك هواتف في السجن، قال إنه يتمنّى أن يموت كإنسان حر في بيته، لكن هذا لم يحدث. لقد رأى أسعد شقيقه في المرة الأخيرة سريعاً؛ إذ جاء في أحد الأيام إلى قسم الأمراض الداخلية في مستشفى أساف هروفيه، وطلب من السجّانين الذين تواجدوا هناك أن يُعلِمُوه بتواجد د. خالد، وهكذا، استطاع أن يسترق النظر إلى أخيه، ورآه، لكن لم يلتقه أبداً.
- ولم يتصل هذا الأسبوع أحد بالعائلة من أجل نقل رسالة رسمية إليها بأن عزيزها قد مات، وقد توجّهت العائلة إلى رئيس بلدية باقة الغربية، وأيضاً إلى الاستشارة القضائية في جمعية "عدالة" من أجل نقل الجثمان، لكن من دون فائدة. وأخبرتنا محامية العائلة هذا الأسبوع إنه توجد سياسة عدم الرد على العائلة، وكأنهم يقولون: "لينتظروا، ليختنقوا."
- وفي يوم الجمعة، جاءت الشرطة، مِن مسلحين، وزعران، ومتخلفين، واقتربوا وهدموا بالقوة الخيمة الممنوعة في الساحة الخاصة، وبدأوا ضرْب كل من يقترب منهم، وهناك فيديو مدته 3 دقائق يوثّق المشهد؛ نساء تصرخ، وأفراد شرطة يضربون ويدفعون، وتم احتلال خيمة العزاء وتطهيرها، ونشْر الدخان الأبيض فيها، وسقطت عجوز على الأرض، واعتُقل 5 معزّين، وسُمع أحدهم يقول: "أي نوع من الفاشية هذا." وهكذا، مات دقة، ولم يُدفن بعد.