أكذوبة "اليوم التالي للحرب"؛ في مواجهة "حماس"، ليس لدى إسرائيل طرق مختصرة
تاريخ المقال
المصدر
- إن العصبية والانغماس في الأوهام هما من أهم سمات هذا الانشغال المحموم بمسألة "اليوم التالي للحرب". الأمر يشبه دودة لا تتحول فوراً إلى فراشة جميلة، لأن عليها التحول أولاً إلى شرنقة بشعة. هذه هي الحال أيضاً في غزة، فمن أجل أن نتمكن من تحقيق الواقع المنشود، الواعد، والمفعم بالاستقرار والأمان (وهو أمر ليس من المؤكد تحقيقه)، فما من خيار سوى أن نمرّ بخطوات مرحلية. الآن، لا يمكننا تقدير مدى نجاحها، لكننا لن نتمكن من الانتقال إلى المراحل التالية، وصولاً إلى الهدف المأمول، إلا بعد اكتمال المراحل الراهنة.
- إن الواقع الذي ينشده وزير الأمن يوآف غالانت، والذي لا يختلف عن الواقع الذي يسعى نتنياهو لتحقيقه، يدير فيه الفلسطينيون غير الضالعين في "الإرهاب"، إلى جانب الجهات الدولية والعربية المعتدلة، المسائل المدنية للفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، تكون المسؤولية الأمنية التي تشمل الحؤول دون تعاظُم الجهات "الإرهابية" وإعادة تنظيم نفسها من جديد مناطة بإسرائيل، التي تتحكم بمحور "فيلادلفي" والمنطقة العازلة المحيطة بغزة، والتي تتمتع أيضاً بحرية تحرُّك عسكري في أرجاء القطاع.
- لكن، ولكي نتمكن من تحقيق الهدف، ينبغي لنا اجتياز بضع مراحل ضرورية، لا توجد ظروف كافية لتحقيقها، نظراً إلى الضغوط والمصالح، وقدرات جهات كثيرة ضالعة في المعركة على التأثير في ترسيم مستقبل القطاع. صحيح أن إسرائيل هي الجهة ذات التأثير الأكبر، لكن "حماس"، والولايات المتحدة، والدول العربية المعتدلة، وعلى رأسها مصر، وإيران وتوابعها، وقطر وتركيا، والسلطة الفلسطينية، وحتى الأمم المتحدة، ووكالات الإغاثة الدولية، وأوروبا، لها كلمة في هذا الشأن. وما دام لم يتم استكمال تحقيق الأهداف المرحلية، فإن أيّ حديث عن المرحلة الدائمة ليس سوى تضليل، وهو تصرّف غير ناضج، بل خطِر، لأنه يضر بقدرة الدولة على المحافظة على التماسك الداخلي الضروري جداً في هذه المرحلة.
تلافي "متلازمة البالون"
- تتمثل الخطوة الضرورية الأولى في تقليص القدرات العسكرية لحركة "حماس"، ولحُكمها. ولتحقيق هذه الغاية، لن يكون تفكيك البنى العسكرية للتنظيم "الإرهابي" كافياً، بل يجب السيطرة على المنطقة بأكملها، من أجل تطهيرها، ومنع "متلازمة البالون"، أي استمرار سيطرة "حماس" على المناطق التي تُخليها إسرائيل، أو بدلاً من ذلك، على إسرائيل ضرب قيادة "حماس" بقسوة، وعلى رأسها الثلاثي القيادي (الأخوان السنوار ومحمد الضيف). يُعتبر النشاط العسكري في رفح مكوناً حيوياً في هذا السياق، فضلاً عن كونه حيوياً في الحؤول دون احتمالات تسلُّح قوات "حماس" في المستقبل، لكن الأمر لن يضمن القضاء على "حماس" وحدها. في اعتقادي، إننا فعلاً قادرون على تحقيق هذا الهدف خلال بضعة أشهر، لكن لكي نتمكن من تحقيق هذه الغاية، المطلوب إحداث تغيير موقت في طريقة عمل قوات الجيش الإسرائيلي.
- إن إنجاز المرحلة الأولى سيخلق بين سكان القطاع طبقة من الوعي ضرورية، لاحقاً، والتي تتمثل في توصُّل سكان القطاع إلى استنتاج، مفاده أن إسرائيل انتصرت على "حماس". لكن، ما دامت "حماس" مسيطرة على مناطق واسعة من القطاع، وعلى جميع سكانه، وما دامت قادرة على العمل العسكري والإداري، فمن الصعب جداً إقناع السكان والجماهير المستهدفة الأُخرى (سواء تلك المعنية بانتصار إسرائيل، أو تلك التي تتمنى هزيمتها) بأن إسرائيل انتصرت فعلاً. إن مثل هذه القناعة ضروري من أجل إطلاق سراح المخطوفين، وإعادة المهجرين من "غلاف غزة" إلى بلداتهم، وإقناع حزب الله بالموافقة على التوصل إلى تسوية على الحدود الشمالية، بحيث تضمن هذه التسوية الأمن لسكان خط المواجهة. لو تحققت هذه المشتقات، فسيكون من الممكن الشروع في التخطيط للطريقة التي سنتقدم بها، وسيكون كثير من الخيارات، التي تبدو لنا صعبة التحقق الآن، خيارات ممكنة.
- في المرحلة الثانية، سيكون من الضروري إقناع سكان القطاع، ليس فقط بأن "حماس" هُزمت، بل أيضاً بأنها لن تعود إلى السيطرة على غزة في المستقبل. عندها فقط، ستتجرأ جهات محلية غير مرتبطة بـ"الإرهاب" على تحمُّل مسؤولية الإدارة المدنية، وقد تبدي أطراف محلية غير مرتبطة بـ"الإرهاب" رغبتها في الاندماج في إدارة القطاع، حتى من دون مقابل سياسي باهظ الثمن من جانب إسرائيل. إن الطريقة الأنجع لإقناع هذه الجهات بالأمر، هي إنشاء إدارة مدنية إسرائيلية موقتة في القطاع، يتمثل دورها في إعادة تربية وتأهيل الجهات المحلية، بالتعاون مع الجهات الدولية والعربية المعتدلة المستعدة لتقديم العون في هذا المجال. فإذا شُكلت، بعد المرحلة الأولى، بدائل من الإدارة المدنية الإسرائيلية، بالتزامن مع استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية، فسيكون في الإمكان التفكير فيها.
- في المرحلة الثالثة، أي مرحلة "اليوم الذي يتلو اليوم التالي"، سيكون هناك حاجة إلى التأكد من أن الجهات الفلسطينية المعنية بقيادة النظام الفلسطيني على المستوى الوطني، والسيطرة على غزة، وضمنها "السلطة الفلسطينية المجددة"، ستقبل اتخاذ سلسلة من التغييرات تطال طريقة تفكيرها اليوم. إذ سيتحتم عليها أن تستنكر، بصورة قاطعة، "الهجوم الإرهابي القاتل" الذي نفّذته "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والامتناع من التحريض على كراهية اليهود، أو الدعوة إلى "الإرهاب"، وبدلاً من ذلك، ترويج ثقافة السلام، والتوقف عن العادة المدانة المتمثلة في دفع رواتب لـ"الإرهابيين" [مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء] وإلغاء القانون الذي يقضي بذلك، والالتزام بالامتناع من القيام بأيّ نشاطات تضرّ بإسرائيل في المحافل الدولية، ومحاربة الإرهاب، وحظر المنظمات "الإرهابية"، وعلى رأسها "حماس"، والاعتراف بإسرائيل، بصفتها دولة الشعب اليهودي. يضاف إلى كل ما تقدّم تحسين الأداء الإداري والتنصل من الفساد، لكي تحظى هذه الإدارة بالشرعية من الداخل والخارج. أمّا اليوم، فإن السلطة الفلسطينية الراهنة تواصل معارضة إجراء هذه التغييرات المطلوبة ورفض البدائل الموجودة اليوم في قيد البحث، على غرار محمد دحلان، كما ترفض إحداث أيّ تغييرات في السردية الفلسطينية.
المرحلة الموقتة مرحلة طويلة، لكنها ضرورية
- إن محاولة خلق واقع جديد، عبر انتهاج الطرق المختصرة، يشير إلى عدم استيعابنا دروس السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وستؤدي في اليوم الذي يتلو "اليوم التالي للحرب"، أو اليوم الذي يتلوه، إلى عودة "حماس" إلى السيطرة على النظام الفلسطيني، وقد لا تقتصر هذه السيطرة على القطاع وحده. يُحظر علينا الوقوع في أحابيل الوهم الذي يتملك أفكار وزير الخارجية الأميركي الذي صرّح مؤخراً بأنه "يعتقد أنه من الممكن ضمان أن الدولة الفلسطينية التي ستنشأ في ’اليوم التالي للحرب’ لن تكون تحت سيطرة حماس"، في الوقت الذي تتمتع "حماس" بدعم واسع النطاق في صفوف الشعب الفلسطيني. للأسف الشديد، علينا أن نمرّ بالمرحلة الموقتة ونجتازها، على أن تشمل تغيير التربية الفلسطينية وتبنّي سردية بديلة من سردية النضال ضد إسرائيل، إلى أن نتمكن من محو هذه السردية، سردية "من النهر إلى البحر"، وكل ذلك قبل البدء بترسيم التسويات النهائية.