من المستحيل ألّا تكون "معادياً للسامية"
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • لقد كانت "مذبحة" السابع من تشرين الأول/أكتوبر قاسية ومروعة، ومن حق إسرائيل الكامل ملاحقة منفّذيها ومَن أرسلهم، لكن... هذا ما كان عليه الوضع دائماً، ومع ذلك، حتى في ظل هذا الوضع المريع، هناك بعض الحزن. فالتاريخ بصورة عامة، وتاريخ النزاع الدموي الإسرائيلي - الفلسطيني بصورة خاصة، لم يبدأ، ولم ينتهِ في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وفي ضوء المشاهد والأصوات التي تتصاعد الآن من غزة، ومن إسرائيل، والتي يتم إسكاتها وإخفاؤها عندنا، لا يمكن لأيّ شخص عاقل في العالم الا يكوّن رأياً يعتبره السياسيون ووسائل الإعلام في إسرائيل "معادياً للسامية".
  • وفيما يلي ملخص قصير للأحداث السابقة: أُقيمت دولة إسرائيل في سنة 1948 على خراب "النكبة"، وبعد طرد أغلبية السكان الفلسطينيين من هذا البلد، الذين بلغ عددهم نحو 700 ألف، وتدمير قراهم وبلداتهم تدميراً كاملاً، ومحوها عن وجه الأرض، لقد تمّ تدمير 600 قرية مع منازلها، تقريباً، ولم يبقَ منها أثر يُذكر؛ وجرى الاستيلاء على أملاك وأراضي "الغائبين" من الفلسطينيين وتوطين يهود قدِموا إلى هنا من كل أصقاع الأرض في الأراضي المحتلة.
  • بعد مرور 19 عاماً، وفي سنة 1967، وخلال حرب نشبت بين إسرائيل والدولتَين المجاورتَين مصر والأردن، والتي لم يبادر إليها الفلسطينيون، ولم يشاركوا فيها، احتلت إسرائيل الضفة الغربية من الأردن (والتي تسمى اليوم "يهودا والسامرة")، ومن مصر قطاع غزة. وبهذه الطريقة، استكملت إسرائيل احتلال "أرض إسرائيل الكاملة" الانتدابية، والاستيلاء عليها كلها.
  • ومنذ ذلك الوقت، حتى اليوم، وخلال 60 عاماً، يخضع السكان الفلسطينيون في هذه الأراضي المحتلة لحكم عسكري وحصار إسرائيلي، مجردين من حقوقهم الإنسانية. علاوةً على ذلك، خلال هذه السنوات، وطّنت إسرائيل مئات الآلاف من مواطنيها في هذه المناطق المحتلة، منتهكةً القانون الدولي، من خلال نهب أراضي الفلسطينيين، وبنيّة واضحة، وحتى معلنة، لمنع أيّ إمكانية تسوية تسمح للفلسطينيين بالعيش حياة طبيعية، بقدر الممكن.
  • طبعاً، يجب الإشارة إلى أنه منذ بداية مجيء اليهود الصهيونيين من أوروبا إلى هنا، من أجل إقامة "الوطن القومي"، أي دولة اليهود، مكان الفلسطينيين، وعلى حسابهم، ظهرت بين سكان البلد [الفلسطينيون] حركة معارضة شملت عمليات "إرهابية" ضد اليهود الذين استوطنوا هنا على أراضيهم، وهذه العمليات لم تتوقف منذ ذلك الحين، حتى اليوم. لكن يجب أن يكون واضحاً أن اليهود لهم دور أيضاً في الإرهاب والمذابح، وفي تنظيمات العصابات السرية والهاغانا وإيتسيل، و"ليحي"، قبل قيام الدولة، كذلك الجيش النظامي الجديد الذي بنته الدولة، والذي ارتكب مذبحة قرية قبيا الأردنية الفلسطينية [في سنة 1953، عندما قتل جنود إسرائيليون، بقيادة أريئيل شارون، 69 شخصاً من سكان القرية، وهدموا 45 منزلاً ومدرسة واحدة ومسجداً]، وفي كفر قاسم، وأيضاً بواسطة أذرع الجيش الإسرائيلي، مثل ارتكاب مجزرة "صبرا وشاتيلا" في بيروت، والتي نفّذتها ميليشيات مسيحية لبنانية.
  • "المذبحة" التي نفّذتها "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر هي جزء من هذا التسلسل التاريخي القاسي والمؤلم.
  • رداً على ذلك، شنّت إسرائيل حرباً انتقامية دموية لا تزال مستمرة منذ أكثر من 7 أشهر، ولا تبدو نهايتها في الأفق، ليس فقط ضد زعماء "حماس" ومنفّذي "المذبحة"، بل ضد كل سكان قطاع غزة من الفلسطينيين، الذين يبلغ عددهم مليونين وربع المليون من أحفاد المهجرين من النكبة. دمرت إسرائيل في هذه الحرب أغلبية منازل القطاع، وحولت نحو مليونَي نسمة من السكان إلى أشخاص مُعدمين لا يملكون شيئاً، وقتلت كثيرين، أغلبيتهم من النساء والأطفال، وترفض أيّ اقتراح بشأن وقف الحرب، قبل تحقيق "النصر المطلق" الذي لا تستطيع تحديده، هي نفسها، وطبعاً، تؤجل أيّ اقتراح حلّ متفق عليه يمنح الفلسطينيين المساواة والحياة الحرة، إلى ما لانهاية، مثلما دأبت خلال سنوات عديدة.
  • في مواجهة هذا السلوك المدمر لدولة إسرائيل، وليس سلوك نتنياهو وبن غفير، بل دولة إسرائيل، لا غرابة في أن تظهر في العالم حركة معارضة قوية للسياسة الإسرائيلية. وهذا ليس عداءً للسامية، وليس عداءً لليهود. إنها حركة معارضة لأفعال دولة إسرائيل، وكل مَن يدعم أفعالها من اليهود ومن غير اليهود. من الواضح أنه توجد في داخل هذه الحركة الكبيرة حفنة من المُعادين للسامية "القدامى"، لكن هذه الحركة المعارِضة لإسرائيل لا تظهر فيها أيّ علامات تقليدية للعداء للسامية. فهي لا تتهمنا بقتل يسوع المسيح، أو بأننا نستخدم دم الأطفال في خبز الفطيرة، أو بأننا ننشر الأمراض، ونسيطر على الدولة العميقة في العالم، بحكم الأمر الواقع، وكل الافتراءات المعادية للسامية. إن الحركة المعارضة لنا، اليوم، هي ضد ما نقوم به من أفعال.
  • وإذا كان هتاف "من البحر إلى النهر" يثير هلعنا، يجب أن نقول في البداية، إن دولة إسرائيل هي التي تسيطر، عملياً، "من البحر إلى النهر"، وتحرم الفلسطينيين حريتهم. ثانياً، الحكومة الإسرائيلية، في أغلبيتها، وجزء كبير من "المعارضة" ليبرمان، ساعر، وبينت - من أشد المؤيدين لإسرائيل اليهودية "من البحر إلى النهر".
  • والأهم من كل هذا أن الذين يقارنون الحركة التي تعارض السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين بـ"العداء للسامية" يأتون في الأساس من أوساط اليهود المتدينين القوميين، من المستوطنين الشباب، وهم الذين يفرضون على التحركات المعارِضة لأفعال إسرائيل رداء اليهودية، ويحولونها إلى تحرّك "معادٍ للسامية"، هم أنفسهم يمنعون دخول المساعدات الإنسانية، وخصوصاً أكياس الطحين التي يمزقونها ويفرغونها على الأرض، والمرسلة إلى اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصاً الأولاد.
  • ونشاهد في الفيديوهات مجموعة من شابات وشبان التلال [شبان التلال هم مستوطنون يدافعون عن البؤر الاستيطانية غير القانونية] من المتدينين - القوميين الذين تدل ملابسهم ومظهرهم على يهوديتهم العميقة، يهاجمون الشاحنات، ويرمون أكياس الطحين المرسلة إلى اللاجئين الجوعى في غزة على الأرض ، وهم يرقصون ويغنون ابتهاجاً.
  • لا يمكن لإنسان عاقل أن يرى هذه المشاهد ويسمع هذه الأصوات ألّا يصبح "معادياً للسامية".