استخدام الجيش الإسرائيلي المدنيين الغزّيين دروعاً بشرية يُضعف حملة إسرائيل "المبررة" ضد "حماس"
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • إن استخدام الجيش الإسرائيلي الغزّيين دروعاً بشرية، والذي كشف عنه تحقيق "هآرتس"، لا يمكن تبريره بالتفسيرات التي كان الجيش قد قدمها في بداية هذه الألفية. فهذه الممارسات تتعارض مع القانون الدولي، وكذلك مع قرار المحكمة الإسرائيلية العليا، الصادر في سنة 2005، والذي حظر استخدام "إجراء الجار"[1] و"إجراء التحذير المبكر"[2]  في الضفة الغربية. ونتيجة هذا القرار، فُرض حظر واضح على هذه الممارسات في كتيّب أوامر وتعليمات الجيش.
  • حاول الجيش تبرير استخدام الفلسطينيين دروعاً بشرية في الضفة الغربية بذرائع مختلفة، من ضمنها موافقة الفلسطينيين على القيام بذلك، أو عدم وجود خطر حقيقي على مَن يتم استخدامهم دروعاً بشرية. لكن المحكمة الإسرائيلية العليا رفضت هذه التفسيرات، وأكدت أنه حتى لو كان هذا الإجراء المدوّن يهدف إلى حماية قواتنا، وظاهرياً لا يتعارض مع القانون الدولي، فإنه سيفشل في امتحان الواقع. وقرر القضاة الإسرائيليون حظر استخدام السكان المحميين في إطار الجهد الحربي، وضرورة الفصل في القتال بين المدنيين والعمليات العسكرية.
  • من الواضح أن استخدام الغزّيين دروعاً للدخول إلى المباني والأنفاق، يتم رغماً عنهم، ومن الواضح أنهم يتعرضون لخطر كبير. ولولا هذا الخطر، لما كان هناك أيّ معنى لاستخدامهم. فحياة هؤلاء ليست هي فقط التي تتعرض للخطر، بل أيضاً تُداس كراماتهم الإنسانية، إذ إنهم يُستخدمون كوسيلة لتحقيق هدف عسكري. كما أنهم يُحتجزون بطريقة غير قانونية، من دون أيّ سبب قانوني للاعتقال، وفي ظروف صعبة ومهينة.
  • إن المنطق الكامن خلف استخدام الفلسطينيين لتفتيش ومسح الأنفاق واضح: من الأفضل تعريض حياة الغزّيين للخطر، بدلاً من حياة جنودنا، حتى لو كان الغزّي مدنياً، وليس مقاتلاً. ومع ذلك، فإن هذا هو بالتحديد ما ينبغي منعه، وفقاً للأسباب التي ذكرناها. يتمثل الهدف الأساسي من القانون الدولي في حماية المدنيين غير الضالعين في القتال، والحفاظ على إنسانيتهم، حتى في الحرب. لكن استخدام المدنيين دروعاً بشرية يؤدي إلى العكس تماماً، فهو يعرّضهم لخطر الموت، رغماً عنهم. والدليل على ذلك هو أن الجيش، في ردّه على التحقيق في "هآرتس"، لم يحاول الادّعاء أن هذه الممارسة قانونية، بل أكد أنها تتعارض مع أوامر الجيش، ومن الجيد أن الأمر على هذا النحو.
  • إذا كان هناك حاجة إلى دليل على وضوح هذا الحظر، يجب علينا أن نفكر في الحالة المعاكسة: لنفترض أن جيشاً أجنبياً يحتل أرضنا، لا سمح الله، ويقوم باستخدامنا دروعاً بشرية. ما الذي كنا سنفكر فيه حينها ونقوله؟ زد على ذلك أن إحدى الحجج الرئيسية التي تتبناها إسرائيل ضد "حماس" وبقية المنظمات "الإرهابية"، هي أنها تستخدم مدنييها دروعاً بشرية بصورة غير قانونية، ألا نفقد ركيزتنا في هذه الحجة "العادلة والمهمة"، على المستوى القانوني والأخلاقي الدولي، إن كنا نتصرف بطريقة مشابهة؟ الآن، دعونا نفكر في غزّي نجح في الفرار من مصيره كدرع بشري لحركة "حماس" (وهو ما يعرّض حياته للخطر، نظراً إلى نشاط قواتنا)، ويجد نفسه مضطراً إلى أن يصبح درعاً بشرياً للجيش الإسرائيلي هذه المرة.
  • يُطرح في هذا السياق سؤالان رئيسيان: الأول، يتعلق بمسؤولية القيادة، بما في ذلك القيادة العليا، عن هذه الأفعال التي يقال إنها ليست حالات استثنائية، أو قليلة، ولا تُخفى عن عيون الضباط الكبار. في الثقافة التنظيمية لأيّ مؤسسة هرمية، والجيش كمثال واضح لمؤسسة كهذه، عندما يتكون انطباع بأن القادة الذين يعلمون بسلوك معين، أو يشكّون في حدوثه، لا يفعلون شيئاً لإدانته ووقفه، فإن الرسالة التي تصل إلى المرؤوسين هي أن هذه الأفعال مسموحة. لذلك، فإن القادة الذين يعلمون ويتجاهلون، بهدف الحفاظ على "نظافة أيديهم"، يتحملون المسؤولية الكاملة عن أفعال مرؤوسيهم كما لو كانوا قد أصدروا أوامر صريحة بتنفيذها.
  • من حيث خطورة السلوك، تُعتبر مسؤولية القادة، الذين من واجبهم التأكد من أن عمل مرؤوسيهم يجري في إطار القانون، والذين يتمتعون بالسلطة لمنع ارتكاب أفعال منافية للقانون، أثقل من مسؤولية الجنود الذين ينفّذونها. فالقائد الذي يقدر على منع وإيقاف هذه الأفعال، لكنه يمتنع من ذلك، يتحمل مسؤولية أكبر من مسؤولية مرؤوسيه الذين انحرفوا، والذين يتحملون أيضاً مسؤولية أفعالهم المحظورة. يجب ألّا تقتصر التحقيقات في هذه الأحداث على المنفّذين فقط. يجب التحقيق في سلوك التسلسل القيادي، وصولاً إلى المستويات العليا، من أجل محاسبة جميع المشاركين، سواء بالإيحاء، أو بالسكوت، أو التقاعس عن العمل، على خلفية علمهم، أو شكوكهم التي لم يكلفوا أنفسهم عناء التحقق منها.

الزعماء يصمتون، والرسالة تتغلغل

  • السؤال الأكثر أهميةً هو كيف انتهى الأمر بالجيش إلى هذا الوضع، ليس في هذا السياق فقط، بل في مسائل أُخرى أيضاً، مثل التعامل مع العدو الذي استسلم، أو تم تحييده. إن حلقة الذين يتحملون المسؤولية الأخلاقية شديدة الاتساع، وجذور المشكلة تكمن في رفض التمييز الضروري بين الغزّيين المشاركين في القتال ضدنا، والآخرين الذين لا يشاركون في القتال. من ضمن التصريحات التي أصبحت شائعة جداً، بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عبارات مثل "لا يوجد أبرياء في غزة"، و"جميع الغزّيين أعداء يجب قتلهم"، وغيرها من مقولات، وإلى جانبها، فكرة تجويع سكان غزة بالكامل، الأمر الذي قد يورط إسرائيل في إبادة جماعية.
  • لقد تكررت هذه الأحاديث من على كل منبر، مراراً وتكراراً، ولم تصدر فقط عن شخصيات هامشية، بل تبناها أيضاً محللون رفيعو المقام. وفي مواجهة هذا الفيضان من محاولات نزع الإنسانية عن سكان غزة جميعاً، لم تكن الأصوات المعارضة والمحتجة سوى همسات ضعيفة. أمّا القيادة السياسية، التي كان من المفترض أن تكون مثالاً يُحتذى به، فقد انضمت إلى جوقة الجماهير، أو لاذت بالصمت. ومع ذلك، فإن الجيش لا يعمل في الفراغ. وحتى عندما يكون الجيش في غزة، فإن قلبه يبقى في إسرائيل، ومن الواضح أن ما قيل على كل منبر كان له تأثير مدمّر، لقد أربك المسار الصحيح.
  • مَن جعل بن غفير وسموتريتش وزراء كباراً في الحكومة، هو الذي شجع على نزع الإنسانية عن المجتمع الإسرائيلي نفسه. وفي الحساب الحقيقي، لن ينجو أيضاً كلّ مَن هيّأ الأرض لاستخدام البشر كأدوات في آلة الحرب. المجتمع الإسرائيلي كله مطالب بتطهير نفسه من هذه النزعة التي اكتسحته، المتمثلة في نزع الإنسانية عن الآخر، والتي تقبل التعاون مع أشرّ الأشرار، ما دامت الضحية عربية. هذا التحدي المفروض على المجتمع بأسره، وبصورة خاصة على الجهاز التربوي، كبير للغاية، ويتطلب قيادة تربوية مختلفة تماماً عن القائمة حالياً.
  • ليس من المستغرب أن تكون هذه الطريقة السيئة في استخدام المدنيين دروعاً بشرية بدأت في الضفة الغربية. ففي حالة الاحتلال، ما من فائدة لأيّ أحكام قضائية، لأن المحتل سيجد دائماً تبريراً لسيطرته على الآخرين، باعتبارهم أعداء وأدنى مرتبةً. من هنا، تبدأ الخطيئة، ومن هنا، تتشكل التربة الفاسدة التي تثمر في النهاية اضطهاداً ممنهجاً للفلسطينيين، ومدعوماً من الدولة، وكذلك استخدام البشر دروعاً بشرية.

________

[1]  إجراء شاع استخدامه من طرف الجيش الإسرائيلي في إبّان الانتفاضة الثانية، إذ استخدم الجيش الإسرائيلي أهل الحي دروعاً بشرية في مواجهة مطلوبين من الحي نفسه. أو يطلبون منهم، تحت تهديد فوهات القناصة، تفقُّد شقق يختبئ فيها مطلوبون، قبل الاشتباك معهم، أو بعده.

[2]  إجراء يجبر بموجبه الجيش الإسرائيلي إرسال أحد أقارب المطلوبين المتحصنين على طرق الباب والطلب من المقاتل الفلسطيني تسليم نفسه.

 

المزيد ضمن العدد