محاصرة العدو ليست جريمة حرب
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- في افتتاحية "هآرتس" (23/10)، كُتب عني كلام نقدي لاذع، واتُّهمت بأنني اقترح خطة مجرمة لإنهاء الحرب. وكان عنوان المقال "جنرالات الخداع". وفي الواقع، أنا أعرف عيوبي الكثيرة، لكن الخداع ليس بينها. لن أتوقف عند الجانب الشخصي، وسأحاول أن أوضح نقاطاً أكثر أهمية.
- من بين الأخطاء الخطِرة التي ارتُكبت منذ بداية الحرب حتى اليوم، إن الخطوة الأولى التي يجب أن نقوم بها عندما ندرس الاستراتيجيا هي تحديد السردية، أي شرح القصة. قبل 18 عاماً، تحول قطاع غزة إلى دولة أمر واقع مستقلة. لقد امتازت بكل صفات الدولة: حدود واضحة، سلطة مركزية مستقرة، سياسة خارجية مستقلة، وجيش خاص بها. على الصعيد الداخلي، شهدت غزة مساراً شبيهاً لِما حدث في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. فالحزب الذي فاز في الانتخابات في سنة 2006، "حماس"، نجح في التوحيد والمزج بين الحزب وبين أغلبية المؤسسات التي عملت في القطاع، وخلق أمة مندمجة وموحدة تؤيد زعاماتها وأيديولوجيتهم.
- السبيل الوحيد إلى وصف ما حدث في 7 أكتوبر 2023 هو التالي: دولة غزة بدأت حرباً دموية ضد دولة إسرائيل. وبدلاً من أن نفهم هذا الواقع، تبنّت حكومة إسرائيل والجيش والإعلام سردية خاطئة تفيد بأن التنظيم "الإرهابي" "حماس" هو مَن نفّذ العملية "الإجرامية"، وأن ليس لهذا التنظيم أيّ علاقة بالسكان "الأبرياء". هذه السردية الخاطئة هي التي أدت إلى اختيار هذه الاستراتيجيا التي اعتمدت كلها، ولا تزال تعتمد على عملية واحدة: الضغط العسكري.
- إن الاعتماد على الضغط العسكري وحده خطأ خطِر. دعونا نفحص نموذجاً، ماذا كان يمكن أن يجري لو أن دولة لوكسمبورغ الصغيرة هاجمت بلجيكا وقتلت 1200 شخصاً، معظمهم من المدنيين، وخطفت 250 بلجيكياً؟ من المعقول الافتراض أن بلجيكا، بعد القيام بعملية عسكرية، كانت ستغلق المعابر بين الدولتين، وتفرض حصاراً على لوكسمبورغ. كان يتعين على دولة إسرائيل أن تفعل هذا بالتحديد، وهذا ما كان يجب عليها فعله، وبالطريقة نفسها. لو عملنا بهذه الطريقة، لكان في إمكاننا إعادة كل المخطوفين منذ وقت طويل وإنهاء الحرب والحؤول دون موت الآلاف من الفلسطينيين. ومثل هذا السيناريو، كان سيجعل حكومة "حماس" مضطرة إلى تقديم التنازلات.
- يمكن أن نجد دليلاً جزئياً على ذلك من خلال الطريقة التي جرى فيها التوصل إلى صفقة المخطوفين الوحيدة حتى الآن، قبل عام. لقد حصلت إسرائيل على عشرات المخطوفين الأحياء في كل يوم، وأطلقت سراح أسرى صغار، في مقابل كل مخطوف. ولم يكن من شروط الصفقة أيّ انسحاب. لماذا؟ السبب بسيط: حتى التوصل إلى هذه الصفقة، كانت تدخل إلى قطاع غزة شاحنتا تموين يومياً، وطالبت "حماس" بزيادة عدد الشاحنات إلى 200. وكان هذا يمثل حاجة أساسية بالنسبة إليها، لذلك، أظهرت استعداداً كبيراً للموافقة على التسوية. يكمن الخطأ الإسرائيلي في أننا لم نحرص على تقليص حجم المساعدة مرة أُخرى إلى شاحنتين فقط في اليوم التاسع للصفقة، أي اليوم الذي خرقت فيه "حماس" الاتفاق.
- ميزة "حماس" أنه تدور في غزة مواجهتان: مواجهة عسكرية ومواجهة سياسية. على الصعيد العسكري، حقق الجيش الإسرائيلي إنجازات وانتصاراً مذهلاً. في المقابل، على الصعيد المدني، "حماس" هي التي انتصرت. فقد نجحت في المحافظة على سيطرتها السياسية في القطاع لسببين: الأول، لأن إسرائيل صدّت كل محاولة لإيجاد بديل من سلطتها؛ والثاني، لأن "حماس" تسيطر على المجال الأهم، ألا وهو الاقتصاد.
- منذ سنة 1992، قال بيل كلينتون "إنه الاقتصاد أيها الغبي". "حماس" هي مَن يوزع المساعدات التي تحصل عليها مجاناً وتبيعها بأسعار خيالية. ثالثاً، بمساعدة المال الكثير الذي جمعته من ذلك فقط، نجحت في دفع الرواتب لعناصرها المخلصين، وجنّدت مقاتلين جدداً مكان الذين قُتلوا.
- ماذا نفعل والحال هذه؟ منذ عدة أشهر، أقول إن القرار الصحيح هو الموافقة على إنهاء الحرب في قطاع غزة، في مقابل التمسك بشرط واحد: إعادة كل المخطوفين دفعة واحدة. لكن هل هناك مَن هو مستعد للقيام بذلك لدينا، أو لدى الطرف الآخر؟ في رأيي، لن يحقق استمرار الحرب أيّ هدف؛ وبعد نصف سنة أُخرى، سنجد أنفسنا في الوضع نفسه، لكن مع مزيد من الجنود القتلى، ومقتل جميع المخطوفين. يتعين علينا التفكير في استراتيجيا مختلفة قادرة على خلق ضغط حقيقي على الطرف الثاني. والحل الوحيد الذي يمكن أن يحقق ذلك يحتاج إلى أن نسيطر على أراضٍ. وهدف مثل هذه الخطوة أمني فقط، وتظل صالحة حتى التوصل إلى اتفاق. إن الشرف والأرض هما القيمتان الوحيدتان اللتان تؤثران في القادة العرب، ولهذا السبب، اقترحت احتلال شمال غزة.
- وبجهل مُطلق، جاء في افتتاحية "هآرتس" التالي: "خطة آيلند هي جريمة حرب، وتتعارض مع قرار مجلس الأمن الرقم 2334 الذي ينص على عدم الاستيلاء على أراضٍ بالقوة، أو بواسطة أعمال حربية". أريد الإشارة إلى فكرتين في هذا السياق: أولاً؛ القرار 2334 الصادر عن الأمم المتحدة، الذي يتناول نهب أراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية لمصلحة المستوطنات اليهودية. ولا توجد علاقة بين هذا القرار وبين ما أقترحه بالنسبة إلى غزة. ثانياً؛ يُفهم من الافتتاحية أن احتلال أراضٍ في الحرب هو خطوة يجب عدم القيام بها، وتُعتبر جريمة حرب. هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، والظاهرة الأكثر شيوعاً وشرعيةً خلال الحرب هي احتلال أراض. ومَن يعتقد أنه ممنوع احتلال أراضٍ هو كمن يقول ممنوع تقطيع الخضار في أثناء تحضير السلطة.
- ونظراً إلى أن احتلال أراضٍ خلال الحرب مسموح، يُطرح السؤال كيف نفعل ذلك؟ الاحتمال الأول، القيام بذلك عندما يوجد في المكان آلاف المواطنين. النتيجة ستكون حتماً سقوط عدد كبير من القتلى من الأبرياء. والاحتمال الآخر، هو العمل مسبقاً كي لا يكون هناك مدنيون في المنطقة. وليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة طلبت من إسرائيل، قبل العملية في رفح، نقل أكبر عدد ممكن من السكان إلى منطقة أُخرى. وهذا ما فعلناه، وكان عدد المصابين من المدنيين ضئيلاً.
- أنا أقترح تنفيذ هذه الخطة، وتحديداً في شمال القطاع. يجب احتلال الأرض على مرحلتين: الأولى، إخلاء المنطقة من المواطنين، وفي المرحلة الثانية، محاربة "المخربين" الذين بقوا هناك. ونظراً إلى أن هذه المنطقة، من محور نتساريم وشمالاً، تحاصرها إسرائيل منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، لا يوجد سبيل أكثر نجاعةً، ولا يتسبب بوقوع إصابات، من احتلال هذه المنطقة وفرض حصار عليها، وليس مهاجمتها. ويُعتبر الحصار تكتيكاً مقبولاً ومعتمداً في القانون الدولي. في أثناء الإعداد للخطة المسماة "خطة الجنرالات"، ألحقت بالخطة نسخة من الدليل الرسمي للجيش في الولايات المتحدة الذي يتضمن الفصل المتعلق بالحصار.
- في الخلاصة، لقد اقترحتُ خطة احتلال شمال القطاع على الجيش قبل 10 أشهر. لو نفّذناها منذ ذلك الوقت، لكانت الحرب انتهت، ولكنّا استرجعنا كل المخطوفين. لو فهمت "حماس" أن عدم استعادة المخطوفين معناه خسارة 35% من أراضي القطاع، لكانت قدمت تنازلات منذ وقت طويل. ولا يوجد أيّ شيء في اقتراحي يتعارض مع القانون الدولي والإنساني.