إيران تكشف نقاط الضعف في المجتمع الإسرائيلي وتستغلها
تاريخ المقال
المصدر
- خلال كتابة هذه السطور، ما زال لم يتضح رسمياً ما إذا كان حادث اصطدام الشاحنة بحافلة المتقاعدين بالقرب من غليلوت هجوماً "إرهابياً"، حسبما سارع وزير الأمن القومي ومفتش الشرطة إلى تأكيد ذلك، أم أنه لم يكن سوى مجرد حادث سير مأساوي، وهو أمر لا يزال قائد المنطقة وجهات الشاباك المسؤولة عن التحقيق في الحادثة تأخذه في الحسبان، على أنه احتمال وارد. لكن من المؤكد تنفيذ محاولة هجوم دهس وطعن وقعت في الوقت نفسه في منطقة حزما، جنوبي القدس، حيث أُطلقت النار على مهاجم يحمل هوية إسرائيلية وقُتل، بعد أن حاول دهس وطعن جنود من قوات الجيش الإسرائيلي كانوا هناك.
- هذه الهجمات ومحاولات تنفيذ الهجمات التي يقوم بها أفراد فلسطينيون من الضفة الغربية، وعرب مقدسيون يحملون الهوية الإسرائيلية، وأقلية هامشية من عرب الداخل، على عاتقهم الشخصي. تكبّد إسرائيل ثمناً باهظاً للغاية. هذه الظاهرة ليست جديدة، فمنذ سنوات عديدة، تسعى الأجهزة الأمنية، بطرق مختلفة ومتنوعة، للكشف المبكر عن هؤلاء المهاجمين المحتمَلين.
- كل مواجهة عسكرية في قطاع غزة خلال العقود الأخيرة، تشعل مشاعر الرجال والنساء، الذين يقررون، تحت تأثير الصور غير المُراقبة التي تُنشر في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي البث التلفزيوني الخاص بالسلطة الفلسطينية، وقنوات "حماس"، ودول أُخرى عديدة، الخروج وتنفيذ هجوم يهدف إلى قتل مدنيين وجنود إسرائيليين – وهذا يجري في بعض الأحيان، بناءً على قرار لحظي، وليس نتيجة تخطيط، أو جمع معلومات استخباراتية مسبق.
- يعمل المهاجم الفرد، سواء أكان رجلاً أو امرأة، بدوافع مختلفة: إذ غالباً ما يكون هناك دافع شخصي مرتبط بالمكانة الاجتماعية للمنفّذ، أو مستوى تديُّنه، أو تورُّطه في نزاع عائلي، أو نتيجة عدم قبوله في محيطه الاجتماعي. يأمل هؤلاء المهاجمون من خلال ذلك أن تنظر إليهم عائلاتهم ومجتمعهم بصفتهم قاموا بأداء الفريضة الأهم من منظور الإسلام – وهي "الاستشهاد" – وهو ما يضمن أن يصبحوا، بعد وفاتهم، أبطالاً وملهمين للشباب الآخرين، ليتبعوا طريقهم.
- تُنفّذ هذه الهجمات الفردية في كثير من الأحيان باسم الأقصى، القضية التي تُعد دافعاً مهماً للغاية، وخاصة في الأوقات التي يكون فيها المسجد الأقصى محور الأحداث. بالإضافة إلى ذلك، فإن حرب "السيوف الحديدية"، التي أطلقت عليها "حماس" منذ بدايتها اسم "طوفان الأقصى"، عمّقت هذا الشعور تجاه المكان، ورسّخت الأيديولوجيا المرتبطة به، وهو ما سيستمر في إلهام مهاجمين فرديين محتمَلين في المستقبل.
- لقد تحدثتُ في الماضي عن شبكات التواصل الاجتماعي، لكن علينا أن نتذكر دائماً أن شبكات التواصل هذه "لا تعمل بمفردها"، وأن استيحاء تنفيذ هجمات في كثير من المرات، وهو أمر يتطور في هذه الشبكات، لا يكون نتيجة تصفُّح لحظي عبر فايسبوك، أو تيك توك. القصة هنا معقدة أكثر: فالذين يقومون بتغذية التحريض، ونشر الصور الفظيعة، وبث الدعوات إلى الانتقام، هم عناصر "حماس" وجِهات استخباراتية إيرانية، لا يحتاجون إلى أن يكونوا في غزة، أو الضفة الغربية، وفي إمكانهم أن يديروا منظومة ذكية ومعقدة من التحريض والتحكم في الوعي عن بُعد مئات وآلاف الكيلومترات، وهو نشاط قادر على "استنساخ" مزيد ومزيد من منفّذي الهجمات الأفراد، عبر استغلال ضعف هؤلاء وأزماتهم الشخصية.
النهج الحمساوي الذي قد يتسع نطاقه
- دخلت ظاهرة العمليات الفردية في حياتنا خلال سنة 2015، وفي فترات معينة، بدت كأنها أمر لا يمكن السيطرة عليه. خلال تلك السنوات، شغلتُ منصب رئيس منطقة القدس والضفة الغربية في جهاز الشاباك، وبحثتُ مع زملائي في الجيش الإسرائيلي والشرطة وأقسام السايبر في الجهاز، وكذلك شعبة الاستخبارات العسكرية، وبعزم، عن كيفية الوصول إلى مَن يتأثرون يومياً بالتحريض، ويُلهمون للقيام بعمليات، ويحملون في نفوسهم مشاعر إحباط شخصية تجعلهم يقررون، في لحظة ما، قتل الإسرائيليين.
- وبمرور الوقت، قمنا بتطوير أسلوب عمل لمكافحة هذه الظاهرة، والذي يتم استخدامه حتى اليوم، ويشهد تحسينات مستمرة وتطورات نوعية. تضمنت الطريقة، بطبيعة الحال، تشغيل مصادر استخباراتية بشرية، لكن الأهم من ذلك، في كثير من الأحيان، كان الاستخدام المكثف للأدوات التكنولوجية التي مكنّتنا من تحديد مكان "الإرهابي" المحتمل عبر شبكات الإنترنت، قبل أن يتحرك. في العديد من الحالات، ترك هؤلاء خلفهم آثاراً رقمية من خلال تصرفات بسيطة يقوم بها أيّ مستخدم للإنترنت، أو وسائل التواصل الاجتماعي، وساعدنا التتبع الذي أجريناه على الإمساك بهم قبل أن ينفّذوا مخططاتهم.
- بهذه الصورة، تمكنّا من إحباط العشرات، إن لم يكن المئات، من الهجمات الدموية، أمّا تلك التي لم نتمكن من إحباطها، فقد حرصنا على استخلاص العبر لتكون استجابتنا أفضل في المرات القادمة. لا يوجد ألم وإحباط أكبر لدى موظف، أو موظفة في جهاز الشاباك، من إخفاقهما في الكشف عن هجوم أُفلت من الرصد، حتى لو كان في الإمكان تحديده من خلال نشاطات المنفّذ في وسائل التواصل الاجتماعي.
- ومع ذلك، فإن التحريض عبر الشبكات لا يتخذ شكلاً ثابتاً فحسب، بل إن أساليب المنفّذين الأفراد تتغير أيضاً. فبينما كانت الهجمات في الماضي تُنفذ باستخدام السكاكين، وفي فترات أقدم، باستخدام الجرارات الزراعية، شهدت الهجمات في الفترة الأخيرة استخدام الأسلحة النارية، مثل المسدسات والبنادق، إلى جانب محاولات الدهس، وهو ما يجعلها أكثر فتكاً، مثلما وقع في الهجوم الذي نُفّذ في يافا.
- هناك جانب آخر ومثير للقلق ظهر في الهجوم الذي وقع قبل أسابيع قليلة في الخضيرة؛ حيث قام المنفّذ، وهو عربي إسرائيلي، بعملية قتل مواطن وإصابة آخرين في أثناء ركوبه دراجة نارية - وهي طريقة لا أذكر استخدامها قبل ذلك. هذا دليل على الإلهام الذي يستمده المنفّذون من أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر. فمشاهد الدراجات النارية التي امتطاها عناصر النخبة القسّامية، وهي تندفع نحو الكيبوتسات والمستوطنات المحيطة، حيث نجح ركابها في تنفيذ عمليات قتل جماعي للإسرائيليين، تثير الرغبة في تقليد تلك الأفعال، وهو ما يشكل نهجاً حمساوياً قد ينتشر.
- يشكل الأمر تحدياً خطِراً للغاية لقوات الأمن، الأمر الذي يتطلب تكييف الأدوات والأساليب لمواجهة هذه الظاهرة، مع الحفاظ على التذكير المستمر بأننا نعيش في دولة ديمقراطية، وأن الأغلبية العظمى من العرب في إسرائيل مواطنون ملتزمون القانون، ولا يشاركون في مثل هذه الأفعال.
إيران في كل مكان
- لا تكتفي إيران بممارسة جهود التحريض والإلهام عبر وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل إنها مسؤولة أيضاً عن ظاهرة مقلقة وذات حجم غير مسبوق، كُشف عنها خلال الأسابيع الأخيرة بفضل الجهود الوقائية التي بذلها جهاز الشاباك: إذ يتم تجنيد مواطنين إسرائيليين - من اليهود والعرب - في إطار الجهود الإيرانية في العمل داخل إسرائيل، ولجمع معلومات عن منشآت استراتيجية، ومطارات، وقواعد عسكرية للجيش الإسرائيلي، وضباط كبار، وشخصيات عامة، ومسؤولين في الصناعات الأمنية، وأعضاء من المؤسسة الأكاديمية.
- تشنّ إيران حملة استخباراتية واسعة النطاق ضد إسرائيل، ويتمثّل هدفها في هذه الحالة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن المنشآت المختلفة، ورصد الروتين اليومي للشخصيات العامة، وبصورة خاصة تلك المرتبطة بالأمن الإسرائيلي، بهدف إلحاق الأذى الجسدي بها، بالإضافة إلى تحسين قدرتها على تحديد المواقع الحساسة للتمكن من الاستهداف الدقيق بالصواريخ والطائرات المسيّرة، وغيرها من الوسائل القتالية.
- تُحظر الاستهانة بقدرات ودوافع الاستخبارات الإيرانية إلى العمل داخل إسرائيل، حتى لو تبين في بعض الحالات أن مَن يتم القبض عليهم هم في أفضل الأحوال، أشخاص غريبو الأطوار، وفي أسوئها هواة، ومن الممكن أن يكونوا قد جُنِّدوا من طرف أشخاص هواة مثلهم. هذه النظرة خاطئة، لأن الإيرانيين أثبتوا في الماضي حنكة كبيرة وإصراراً. لقد تعلموا التعرف إلى المجتمع الإسرائيلي وتحديد التوترات الكامنة فيه، واكتشاف نقاط الضعف البشرية والإحباطات الشخصية؛ لذا، يجب أن يكون الافتراض الأساسي أن مَن تم القبض عليهم فشلوا في مهمتهم، لكن هناك آخرين لم يتم الوصول إليهم بعد، وهم يقومون الآن بجمع المعلومات هنا من دون عوائق.
- لا يتعلق الأمر هنا بـ"مهاجم منفرد"، مثلما نعرفه في الساحة الفلسطينية، لكن هناك أيضاً عناصر عديدة تتمثل في استغلال مشاعر التهميش وعدم الاندماج في المجتمع، والمكانة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية، ومشاعر الاستياء والغضب المتراكمة تجاه الدولة.
- كانت أغلبية المواطنين الذين استجابوا لعروض تلك الجهات الإيرانية المجهولة تعلم لمصلحة مَن تعمل - وهي ظاهرة خطِرة للغاية تشكل خيانة للدولة - لكن بعض هؤلاء مضللون تماماً، إذ يتم تشغيلهم، طبعاً لقاء أجر، تحت غطاء عرض عمل بريء، أو علاقات صداقة مع رجال ونساء، أو بحوث لمصلحة مراكز بحثية، أو تصوير مواقع مختلفة في إسرائيل لأغراض سياحية. ومن هذه النقطة، تصبح المسافة قصيرة نحو نقل معلومات ثمينة إلى الاستخبارات الإيرانية. وكلّ منا قد يقع في هذا الفخ، لذلك، ينبغي لنا جميعاً أن نفكر جيداً عندما نتلقى عرض عمل يبدو للوهلة الأولى بريئاً ومربحاً، لكنه يثير الشك، أو على الأقل، التساؤلات عند التدقيق فيه.
- لم يواجه جهاز الشاباك من ذي قبل هذا الحجم من المواطنين المتورطين، وبصورة خاصة أولئك الذين يفعلون ذلك عن عمد ووعي، وغالباً ما يشكلون خلية، أو شبكة من داخل بيئتهم، ويكونون مستعدين لارتكاب جرائم خطِرة تمسّ بأمن الدولة.
- لقد طوّر جهاز الشاباك، حتى في مجال مكافحة التجسس داخل إسرائيل، قدرات متطورة ومتنوعة، تشمل تكنولوجيا متطورة وموارد بشرية، تمكنّه في كثير من الأحيان من التعرف إلى المواطنين الذين لديهم علاقات مشبوهة مع جهات معادية، سواء داخل إسرائيل، أو خلال لقاءات خارج البلد. إنه صراع مستمر للأدمغة، وهو صراع يوميّ ومتواصل، يتطلب ساعات من جمع المعلومات بوسائل مختلفة، أمام خصم إيراني بارع في هذا المجال، يعمل بذكاء، ولا يترك دائماً أثراً خلفه، ويسعى لإلحاق الضرر بنا. ومثلما هي الحال في إحباط الهجمات "الإرهابية"، لا توجد هنا نسبة نجاح تامة، والدروس المستفادة تُستخلص باستمرار.
- هذا الجهد الإيراني المبذول يتطلب أيضاً رفع الوعي لدى الجمهور الإسرائيلي بأساليب العمل المستخدمة، إلى جانب تعزيز مبدأ "اترك ما تشك فيه واذهب إلى ما لا تشك فيه"، بمعنى تقديم بلاغ فوري للشرطة الإسرائيلية عند أيّ اشتباه. لا شك في أنها ساحة صراع إضافية تواجهها إسرائيل، وهي معقدة جداً، وشديدة الحساسية، وأحياناً تكون خادعة – لكن يمكننا تحقيق نجاحات فيها وعمليات إحباط بفضل العمل المهني لأجهزة الأمن، إلى جانب يقظة المواطنين.