الهند، واليابان، وحرب السيوف الحديدية. الأهمية الاستراتيجية لآسيا
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
الهند
- أرست الهند وإسرائيل علاقاتهما الدبلوماسية في سنة 1992، مباشرةً بعد عقد مؤتمر مدريد الذي شكّل نقطة تحوّل في علاقات إسرائيل، سواء مع الدول الآسيوية، أو مع غيرها. انتهجت الهند، التي توجد فيها أقلية مسلمة كبيرة جداً تبلغ نحو 15% من سكان الدولة (أكثر من 200 مليون نسمة)، ولديها علاقات ممتازة مع دول عربية وإسلامية، بينها إيران، خلال معظم السنوات الماضية نهج إدانة إسرائيل وتقديم الدعم للفلسطينيين، وخصوصاً في أوضاع التصعيد. لكن منذ صعود رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي إلى السلطة في سنة 2014، بدأ يطرأ تغيير على الموقف الهندي. بعد وقت قصير من تولّي مودي منصبه، بدأت عملية "الجرف الصامد"، ومنذ ذلك الحين، كان في الإمكان ملاحظة كيف بدأت الهند بتخفيض صوت إدانة إسرائيل. وعملياً، منذ ذلك الحين، بدأ محللون كثُر يرون كيف تخلت الهند، تحت حكم مودي، عن سياسة الدعم التلقائي للفلسطينيين، وتوجّهت، شيئاً فشيئاً، نحو مساندة إسرائيل.
- لقد تبنّى مودي وحكومته، التي يقودها حزب بهاراتيا جاناتا، ذو الأجندة القومية الدينية (الهندوسية)، على مدار السنوات الماضية، سياسات تم وصفها، أكثر من مرة، بأنها تمييزية ضد المسلمين في الهند، والربط بين هذا النوع من السياسات وبين الدولة الإسرائيلية يُنظر إليه على أنه طبيعي تقريباً. وحقيقة أن الهند على مشارف انتخابات عامة بعد بضعة أشهر، يصعّد الخطاب القومي الذي يتبناه أعضاء حزب بهاراتيا جاناتا، ويبدو في بعض الأحيان أن جزءاً من المقولات المساندة لإسرائيل، والتي صدرت خلال الشهر الماضي، موجهة أصلاً إلى الناخبين الهنود، مثلما هي موجهة إلى إسرائيل. كما أن إعلان جهات إسلامية متطرفة في الهند، بالتعاون مع خالد مشعل (عبر خطاب في الإنترنت) قارنوا فيها خلال الأسابيع الماضية بين الصهيونية وبين عقيدة حزب BJP الحاكم، عقيدة الـ "هندو تافا" (أو "الكينونة الهندوسية للهند"، قد أثارت انتقادات حادة تجاه الفلسطينيين في الهند. إلى حد إن وزير الخارجية الهندي ادّعى أن الهند، هي مثل إسرائيل، تواجه تهديدات إرهابية كبرى، ولذا، عليها الوقوف ضد الإرهاب بجميع أشكاله.
- إن الارتباط الاستراتيجي بين الهند وإسرائيل، على المستوى الأمني، وخصوصاً على مدار العقد الماضي، هو أيضاً مرتبط برؤى الهند بشأن أهمية علاقاتها بإسرائيل. فالحديث لا يدور هنا فقط عن التعاون المثمر بين الصناعات الأمنية التابعة للدولتين، بل يدور أيضاً عن منظومة مصالح أوسع كثيراً، تشمل، على سبيل المثال، شراكة I2U2 (الهند، وإسرائيل، والإمارات، والولايات المتحدة)، إلى جانب المبادرة التي لم يتعدّ كونها حتى اللحظة حبراً على ورق، الهادفة إلى ربط الهند بأوروبا، عبر البحر المتوسط وإسرائيل، وهي مبادرة تتّسق أيضاً مع تعزيز الهند علاقاتها بدول الخليج.
- ومهما يكن من أمر، فإن مودي كتب تغريدة على موقع X [تويتر سابقاً] في اليوم الأول من الحرب، السابع من تشرين الأول/أكتوبر، مبرقاً بتعازيه، ومعبّراً عن صدمته من الهجمة "الإرهابية"، ومختتماً تغريدته بالكلمات التالية: "We stand in solidarity with Israel at this difficult hour". وبعد عدة أيام، في 10 تشرين الأول/أكتوبر، وفي نهاية محادثة هاتفية بين مودي وبنيامين نتنياهو، غرّد مودي عبر منصة X قائلاً: "People of India stand firmly with Israel in this difficult hour". ومع ذلك، فمن المهم أن ندرك أن الهند لم "تتخل" عن الفلسطينيين تماماً. وفي الموازاة، وقفت الهند ضد قتل المدنيين عموماً، وعادت إلى تكرار موقفها المؤيد لحل الدولتين. ومن ناحية أُخرى، من المؤكد أن امتناع الهند من التصويت في الأمم المتحدة بتاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر لمصلحة القرار الداعي إلى الوقف الفوري لإطلاق النار، من دون أن يشمل هذا القرار إدانة لحركة "حماس"، يمكن تفسيره بأنه موقف داعم لإسرائيل.
- وبعيداً عن المصالح الهندية الداخلية، فضلاً عن المصالح المرتبطة مباشرةً بالشرق الأوسط، فمن المهم أن ندرك أن جزءاً من التغيير في الموقف الهندي مرتبط بقضية عالمية أكبر كثيراً، وهي صعود حيز "الهندو - باسيفيك"، بصفته مصطلحاً ينظم، على المستوى العالمي، العلاقات القائمة بين دول مختلفة، في آسيا على وجه التحديد، وأيضاً في الهوامش الغربية لهذا الحيز، أي الشرق الأوسط.
اليابان
- العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل واليابان قائمة منذ سنة 1952. وطوال العقود الأولى التي تلت إقامة إسرائيل، ظلت هذه العلاقات قائمة في ظل التهديد المتمثل في العلاقات الوثيقة القائمة بينها وبين الدول العربية، وفي ظل التعلق الياباني باستيراد الطاقة من هذه الدول، إلى جانب عناصر مختلفة تتعلق بالمقاطعة العربية. تمثلت نقطة التغيير الكبرى في هذا الموقف، تماماً كما جرى مع الهند، بعد عقد مؤتمر مدريد؛ فكلما تفتتت المقاطعة العربية الموجهة ضد إسرائيل أكثر، كلما كان في الإمكان رفع مستوى العلاقات بين إسرائيل واليابان. وهكذا، على سبيل المثال، بدأت ماركات كثيرة (ماركات السيارات على سبيل المثال) بالوصول إلى إسرائيل، كما تم توقيع اتفاقيات تعاون متنوعة بين البلدين طوال عقد التسعينيات.
- ومع ما تقدم، استمرت اليابان في التزام الحياد إزاء كل ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وفي معظم الحالات، حين كان الصراع يتصدر عناوين الأخبار، كان يبدو أن حالة الحياد هذه تمثل دعماً لحقوق الفلسطينيين، وإدانة لاستخدام إسرائيل القوة. وعلى الرغم من ذلك، وطوال العقد الماضي، وبالتدريج، بدأت العلاقات الإسرائيلية اليابانية تصبح وثيقة أكثر، سواء على المستوى الاقتصادي، أو على مستوى التعاون الأمني (وبصورة أعمق خلال العامين الماضيين). إن تعميق العلاقات، أولاً، تحت ظل رئيس الحكومة الياباني آبا شينزو، ولاحقاً في ظل حُكم رئيس الوزراء بوميو كيشيدا، كان مرتبطاً أيضاً بـ"اتفاقيات أبراهام". لقد أتاح التوجه الإقليمي للتطبيع بين دول الخليج وإسرائيل إقامة تعاوُن معمّق بين الأخيرة واليابان، وأضفى شرعية كبيرة على مثل هذه العلاقات، إلى جانب تنشيط السياسة الخارجية اليابانية، وترافق الأمر مع سياسات أمنية أكثر عدوانية. من وجهة نظر اليابان أيضاً، فإن أهمية منطقة "الهندو – الباسفيك" في هذا السياق هي كبيرة جداً: فاليابان تروّج هذا المصطلح بقوة، بالتوازي مع فكرة FOIP (وهي اختصار لـ "Free and Open Indo-Pacific")، ومرة أُخرى، إلى الأطراف الغربية لهذه المنطقة، أي منطقتنا، وتولي هذه المنطقة أهمية كبرى.
- وهكذا، نشرت السفارة اليابانية في إسرائيل، يوم السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بياناً دانت فيه الهجوم على إسرائيل، مع تقديمها التعازي للعائلات (صدر البيان ظهر يوم السبت، في الوقت الذي لم تكن فيه أبعاد "المجزرة" قد اتضحت بعد)، من دون الإتيان على ذكر حركة "حماس" بالاسم، أو على كلمة "مجزرة". ويبدو أن اليابان عادت في اليوم التالي إلى إصدار بيانات أكثر "اتزاناً"، أي بيانات تدين العنف من الطرفين، وتدعو إلى وقفه. وعلى الرغم من ذلك، فإن اليابان شرعت بسرعة إلى إظهار ميل أكبر من الماضي إلى الجانب الإسرائيلي. لقد صارت إداناتها الموجهة إلى حركة "حماس" أقل تراخياً وأكثر صلابةً، وبالإضافة إلى ذلك، فرضت اليابان عقوبات على جهات لها علاقة بالحركة (التي تُعرَّف، أو على الأقل ذراعها العسكرية، في اليابان، بأنها "تنظيم إرهابي"). وعلى غرار ما فعلت الهند، امتنعت اليابان من التصويت على القرار الأممي السالف الذكر في 27 تشرين الأول/أكتوبر، وفي هذه المرة أيضاً، يُعد الأمر خطوة إيجابية بالنسبة إلى إسرائيل.
- إن مجرد زيارة وزيرة الخارجية اليابانية لإسرائيل، بعد الحدث مباشرة، حيث التقت وزير الخارجية الإسرائيلي، وكذلك نظيرها الفلسطيني، تشير إلى أن اليابان تحاول مواصلة احتفاظها بالسير على الخط المتوازن، كعادتها، لكنها باتت أيضاً تولي أهمية أكبر لِما يحدث في المنطقة، مقارنةً بالماضي. إن المساعدات اليابانية الإنسانية إلى قطاع غزة في هذا السياق، تعزز قليلاً الطريقة التي يُنظر فيها إلى اليابان في الإقليم، أما التركيز الياباني على السلطة الفلسطينية، مع إدانة حركة "حماس"، فهو أيضاً في مصلحة إسرائيل، طبعاً، في الوقت الذي ترى اليابان أن حل الدولتين هو الخيار المحتمل الوحيد للمستقبل، إذا ما قررت إسرائيل السير على هذه الطريق.
تلخيص
- إن الأهمية الكبرى التي يوليها كلٌّ من الهند واليابان لحيز الـ"هندو باسيفيك"، ترتبط ارتباطاً مباشراً بتعزيز العلاقات مع إسرائيل طوال السنوات الماضية، إلى جانب المصالح المحددة لكل منهما مع إسرائيل. هذه الأهمية ترتبط أيضاً بـ"التحدي الصيني" للبلدين الآسيويين، في الحيز الآسيوي وما وراءه. وبالتالي، فإن تعزيز البلدين علاقاتهما مع الولايات المتحدة يشتبك مع هذه النقطة: إن الدعم الأميركي الهائل لإسرائيل له آثار مهمة في الحيز الآسيوي أيضاً، وليس من قبيل الصدفة أن يكلف وزير الخارجية الأميركي بلينكن نفسه عناء زيارة طوكيو، وسيول، ونيو دلهي، في حين أن مسألة الحرب تقع في قلب الحوارات هناك. وبما إن الانتقاد الكاذب لإسرائيل قد ركز أكثر من مرة على كون إسرائيل دولة "استعمارية"، أو "قلعة للغرب"، غريبة عن محيطها، فإن الدعم الآتي بالذات من الدول الآسيوية له أهمية كبيرة. ومن هذا المنطلق، فإن تأييد الهند، التي تنافس الصين بالذات على قيادة الجنوب العالمي، تزعزع الطبيعة المتجانسة الواضحة للجنوب العالمي، وتتيح لإسرائيل نقطة ارتكاز دعائية ناجعة. إن مثل هذه الزعزعة واضح أيضاً في أوساط دول جنوب شرق آسيا.
- بناءً عليه، على إسرائيل القيام بتوسيع تصوّرها المتعلق بالدعاية السياسية (الهسباراه)، وتأثيرها أيضاً في مستوى الرأي العام، بما يتجاوز الساحة الغربية لأوروبا وشمال أميركا، وتعزيز مكانة إسرائيل في الحيز الهندو باسيفيكي أيضاً. وفي حين أن حكومتَي الهند واليابان تدركان الواقع، فإن الرأي العام هناك قد ينحاز بسهولة (هذا ما يحدث الآن) إلى الاتجاهات المألوفة من مناهضة إسرائيل. صحيح أن السفارات والقنصليات الإسرائيلية في آسيا تقوم بعمل هائل، إلى جانب أن الطلاب الجامعيين، والخريجين، وأعضاء الطواقم التدريسية الإسرائيلية في الدوائر الأكاديمية الإسرائيلية المتخصصة في دراسة شرق آسيا، تبذل جهداً، وخصوصاً في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا إن هناك جهداً دعائياً مطلوباً من الدولة أيضاً. يجب على إسرائيل أن تتذكر أيضاً أن هذه العلاقات الآخذة في التحسن، ستصطدم بقيود في المدى الطويل، إن لم يتم طرح أفق سياسي على الطاولة، حتى لو لم يتخذ هذا الأفق طابعاً فورياً. في إمكان الهند واليابان لعب دور مهم فعلاً في خلق مثل هذا الأفق، لأنهما تُعتبران جهتين مؤثرتين وبارزتين.