برميل المتفجرات الذي نجلس عليه على شفا الانفجار
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • التقيتُ جولي، منسّقة الصليب الأحمر للأسرى الفلسطينيين، قبل أكثر من 30 عاماً، خلال الانتفاضة الأولى، بعد أن عادت غاضبة جداً من زيارة في سجن نفحة في النقب، حيث يتواجد آلاف الفلسطينيين من دون محاكمة لأشهر، وحتّى سنوات (28 أسيراً في كل خيمة). وقد وافق مدير السجن على دعوتي إلى جولة بعد أن نشرنا في "بتسيلم" تقريراً عن تعذيب الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، فتفاخر بأنه يقوم بتغييرات في السجن، ويسمح للأسرى بارتداء ساعة. وسمح لي ولباسم عيد زيارة الخيام، ولقاء الأسرى، كي نرى أنه لا يوجد تعذيب، فعدتُ غاضبة جداً أيضاً. وطلبتُ أساساً أن أفهم لماذا يجعلون الصليب الأحمر ينتظر 14 يوماً من أجل زيارة الأسرى، في الوقت الذي من الواضح فيه أنه يتم التحقيق معهم تحت التعذيب، وقالت لي جولي إن وضع الأسرى صعب جداً، لكنني لم أسأل الأسئلة الصحيحة.
  • وقالت إن الشخص يشعر بالاستفزاز الشديد حين يعلم أن هناك مدرسين ومحاضرين ومحامين وأطباء وقيادات فلسطينية يُعتقلون من دون محاكمة، ليس لأنهم قاموا بشيء ما، إنما لأن هناك شكاً في أنهم سيقومون بشيء ما مستقبلاً. وأضافت هنا السؤال الصعب: ماذا ستفعلون مع برميل المتفجرات هذا؟ ففي السجون، يقبع الآلاف بلا مستقبل، فالحُكم المؤبد، بصورة عامة، هو بين 20 و25 عاماً، لكنه عندكم إلى الأبد، ولديكم مئات الأسرى، إن لم يكن الآلاف، الذين حُكموا بالمؤبدات، وأنتم لا تقصّرون مدة هذا الحكم بسبب سلوك الأسرى الحسن، وفي الوقت نفسه، يُعاد اعتقالهم بعد تحريرهم. وأنتم حتى لا تتحدثون إلى قياداتهم، ولا تقترحون إعادة التأهيل أو أي شيء إضافي، غير خطف الجنود لتحرير الأسرى. لقد اعتقلتم القيادات التي تريد السلام والتعايش، وتعارض المقاومة العنيفة للاحتلال، كما اعتقلتم أيضاً القيادات المعتدلة، ولا تقترحون أي مستقبل، غير صفقة في مقابل الرهائن. هذا ما لخّصته جولي.
  • جولي لا تغادر تفكيري. هل كان عليّ أن أحاول أكثر؟ عندما أسسنا "بتسيلم"، المركز الإسرائيلي للمعلومات وحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، آمنّا بصدق بأن الإسرائيليين سيكتشفون ما يحدث في المناطق المحتلة، وأن الاحتلال سينتهي، وعندما شاهدت فيديو الجنديات من يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، تذكّرت أمل العاروري التي حدّثتْني عن زوجها، تيسير العاروري، وهو فيزيائي ألقى خطاباً خلال تظاهرة لـحركة "سلام الآن"، واعتُقل بعدها من دون محاكمة، ففكرت فيها، وكم آلمها مشهد العائلات الإسرائيلية التي تنتظر أبناءها ليعودوا، كما تتألم من أجل عائلات الأسرى الفلسطينيين.
  • خلال الانتفاضة الأولى، انهار جدار برلين، وانتهى الأبارتهايد، حينها أنهيت رسالة الدكتوراه بشأن جنوب أفريقيا، وآمنتُ بأنه قريباً سنرى نحن أيضاً نهاية الاحتلال والسلام العادل والمستدام، إلاّ إن جميع المدارس والجامعات ورياض الأطفال في الضفة الغربية كانت مغلقة على مدار أشهر بسبب أوامر عسكرية، باستثناء الجامعة الإسلامية في غزة، حيث نمت كوادر "حماس"، وسمحت لهم إسرائيل بذلك، حتى ولو فرضت محددات. هناك أكثر من 100,000 فلسطيني اعتُقلوا في الانتفاضة الأولى؛ 85,000 منهم على الأقل تعرّضوا للتعذيب، وتم إصدار أكثر من 20,000 أمر بالاعتقال من دون محاكمة. حينها، كنتُ على قناعة بأنه لو عرف الشعب الإسرائيلي بالأمر، لَكان سيقف ضد الاحتلال.
  • غادرت جولي الصليب الأحمر، واختفت من حياتي، لكن حصلتُ حينها على فرصة للقاء نشطاء في حقوق الإنسان، منحوني الأمل في جنوب أفريقيا، وحدّثوني عن سنوات طويلة، رفض خلالها البيض الليبراليون الجنوب أفريقيون التعرف أكثر على وضع السود الذين هم بلا حقوق، ومع ذلك، فقد شعروا بعدم الراحة إزاء الفكرة، كما هو حال المحامين والمدرسين والنشطاء الذين جلسوا في السجون الإسرائيلية لـ 90 يوماً ضمن اعتقال إداري من دون محاكمة.
  • في بداية التسعينيات، وتحضيراً لإلغاء نظام الأبارتهايد، عندما بحث النشطاء والقضاة هناك الدستور الجديد لجنوب أفريقيا، نشرت "بتسيلم" تقريراً بشأن الاعتقالات الإدارية التي ورثناها، كجنوب أفريقيا من القانون البريطاني، وقد حصلنا على دعم مفاجئ من كوادر "الحزب الشيوعي" و"الإتسيل" سابقاً، وكانوا قد اعتُقلوا إدارياً على يد البريطانيين. لكن الجمهور الواسع في إسرائيل لا يهتم كثيراً بمعرفة من هم الأسرى الفلسطينيون، وأوضاع اعتقالهم.
  • برميل المتفجرات كَبُرَ أكثر، فمئات الآلاف من الفلسطينيين اعتُقلوا منذ الانتفاضة الأولى، ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر فقط، تم اعتقال أكثر من 8000 فلسطيني في الضفة الغربية (بحسب الأمم المتحدة)، والآلاف من غزة، وكل من يشارك في هذه الحرب هو شريك في خطفنا ووضْعنا جميعاً داخل برميل المتفجرات هذا.
  • ماذا يعرف الإسرائيليون عن الأسرى الفلسطينيين، أو عن الفلسطينيين بصورة عامة؟ حتى "هآرتس" اختارت أن تمنح يوفال بيطان منصّة، وهو رئيس استخبارات مصلحة السجون سابقاً، وكان من المسؤولين عن الوضع المقرف للأسرى الفلسطينيين في السجون، ويتفاخر بقدرته على التفريق بين أسرى "فتح" وأسرى "حماس" عن طريق حال أسنانهم. كم عدد الفلسطينيين من غزة الذين سمعنا عنهم أو رأيناهم أو قرأنا عنهم منذ بداية الحرب في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وضِمنها "هآرتس"؟ لم يسأل أحد إيتمار بن غفير، الذي جعل أوضاع الأسرى أكثر سوءاً، خلال ظهوره كثيراً في الإعلام عما يفعله مع آلاف الفلسطينيين المعتقَلين لدينا على مدار السنوات، وكيف جعل من أوضاعهم أكثر سوءاً، وكيف يساعدنا هذا، وماذا سنفعل مع برميل المتفجرات هذا.
  • إن كل قائد يقوم بإرسال الجنود إلى الحرب من دون نشْر خطة اليوم التالي يستحق أن تصدر ضده مذكرة اعتقال، ليس فقط في الخارج، بل أيضاً في إسرائيل. وإذا لم يتم تحرير الرهائن في مقابل الأسرى الفلسطينيين، ولم نوقف هذه الحرب الآن، فإنه يمكن أن نبقى أسرى وحدنا في هذا البرميل، بعد أن تلفظنا أوروبا، ليس بسبب معاداة السامية، إنما لأننا نعتقد أننا فوق القانون الدولي.
  • إن برميل المتفجرات الذي نجلس عليه على وشك الانفجار، ويجب ألاّ نصغي إلى رجال الجيش و"الشاباك" ومصلحة السجون سابقاً، الذين يشرحون أنه لا يمكن وقف القتال، إنما يمكن ويجب وقف القتال فوراً، وتحرير الرهائن والأسرى هي الخطوة الضرورية والمطلوبة من أجل السلام. نعم، السلام ممكن طالما لا يزال هناك عدد من الناس الذين هم على قناعة بأن هذا البلد يتسع لنا جميعاً، إسرائيليين وفلسطينيين، وأن السجن والحرب والاحتلال ليست طريقنا. وبرميل المتفجرات الخاص بنا ليس محصوراً بآلاف الأسرى الأمنيين، بل هو يكمن أيضاً في السياسة العنصرية الإسرائيلية التي تُطبَق منذ تأسيس دولة إسرائيل، والتي بحسبها، فإن حقوق اليهود الكثيرة أهم من حقوق العرب في هذا البلد، لأن اليهود هم أسياد البلد. هذه السياسة العنصرية تسجننا جميعاً في الأيام العادية، وتهدمنا في أيام الحرب.
  • من يؤمن بأننا جميعاً بشر، إسرائيليين وفلسطينيين، عليه أن يقوم بكل ما يمكن من أجل وقْف الحرب المجنونة وغير الضرورية هذه، وتحرير الرهائن والأسرى الفلسطينيين؛ الجميع في مقابل الجميع، من أجلنا جميعاً.
 

المزيد ضمن العدد